(2)
“جنّية” تعشق أبي !!
أحمد سيف حاشد
عندما كنت صغيرا ـ لم أعد أتذكر بأي عمر ـ ربما في السادسة أو أقل أو أكثر منها بقليل، كنت أخاف، وأعيش رعب الجن والظلام.. أسمع أمي تتحدث عن جن “الداجنة” القريبة من بيت أهلها القديم، وعن نساء الجن اللاتي ضروعهن معطوفين ومسدولين على ظهرهن.. وعن أخوها الذي حاول بكتاب “شمس المعارف” أن يملك الجن، وكاد يجن وهو يسمع ركض الجن على سقف وحدته وعزلته في “جلب” بشعب “موجِر”.
كنت أيضا اسمع أبي يتحدث عن الجن، ويروي بعض الحكايات عنهم.. الجنية الجميلة الممشوقة القوام التي توقف السيارات في وقت متأخر من الليل في “عقبة عدن”، ثم تركب مع السائق وهي تتضوع عطرا وسحرا، وفيها كلّما يجذب ويخدع، ليكتشف السائق في نهاية الأمر إنها برجلي حمار.. وأحيانا تختفي فجأة من السيارة، فينصدم السائق بهذا الاختفاء ويجن.. وحكاية النساء اللاتي على البئر يرشين بالدلى لغرف الماء في حلكة الليل، وهو يسمع الرشاء ومعها شهيقهن وزفيرهن، وما أن يقترب حتى يختفين بغته، فيصاب بالهلع الشديد.. هي حكايات كثيرة كنت أسمع بها كل ما لا يقوى على سماعه طفل بعمري الصغير..
كنت أرتعد من الخوف، وتُنفتح أنفاق موحشة في جدار صمتي.. أتخيل عالم الجن، وتنتابني المخاوف أن ينتزعوني من أمي إلى عالم من رعب ومجهول.. كل مفردة في كل حكاية كانت سرعان ما تجد وقعها على وعيي وتحدث فيه أثر بحجم زلزال.. ما يحكوه يرتسم في مخيلتي على نحو سريع ومذهل، وكأنني لاقط بث، أو رادار سريع الالتقاط لرعب مهول..
تلك الحكايات، كانت تسرح بي إلى البعيد.. تنقلني إلى مجهول وغربة عن عالمي الصغير.. كنت وأنا أسمع تلك الحكايات أعيش بذهن طفل، وقلبي الصغير يخفق داخلي حتى أكاد أتصدّع من الداخل.. أشهد أنزياحات عارمة داخلي.. يحتشد في وعيي اللزج كالصمغ ما هو مرعب ومخيف.. ومع ذلك كنت أحاول كتمان ما يُعتمل داخلي، ومواراة ما أشهده من خوف يزلزلني من الداخل وأنا أطويه وأخفيه بصمت كتوم..
كنت أشعر بالوحشة والخوف والهلع وهم يتحدثون عن الجن والشياطين.. كان الظلام يخيفني، وكانت درج دارنا القديم مظلمة، وهي تلتوي على قطب الدار كثعبان أسود عريض، إلا من بصيص نور خافت يتسلل بوهن إلى سلّم الدّرج من كوتين صغيرتين في جدار الدار..
كنت عندما أصعد أو أنزل الدرج منفردا، أركض مسرعا كالريح، دون أن ألتفت إلى الوراء، حتى انجو، والحيلولة دون أن تلحقني يد جني أو جنية أو مس شيطان، كنت أظن إن الجن تختبئ وتتربص بي في الزوايا المعتمة من درج الدار.. عشتُ وأنا في تلك السن الصغيرة معاناة يومية مع الجن والدرج والظلام.. كان صعود الدرج أو نزولها بمفردي إذا لزم الأمر يجعلني أشعر أنني نجوت من الجن حال تجاوزها..
***
وعندما انتقلت إلى دارنا الجديد الذي بني على مراحل، وكان يومها دكانا فوقه ديوان، لازال بابه مكشوفا، أو من دون باب، غير حزمة من الزرب تُنحَى مع الفجر، وتعاد إليه قبل النوم أو بعد دخول الليل بقليل، وفي مدخله كان يوجد مطبخاً صغيراً في الزاوية..
كنّا يومها ننام في الديوان ونترك الفانوس يضيء على نحو خافت أثناء النوم.. صحيت أنا وأبي مذعورين من الفراش على صوت أمي، وهي تهرع علينا تستنجد وتستغيث وتقول بإرباك وعجل على عجل: “خربي خربي خربي.. البندق البندق”..
لقد رأت أمي يدا ترمينا بالحصاء، من جانب قطب الدرج جوار مطبخنا الصغير.. كانت أمي قد لمحت وجه متخفي باللثام كالشبح، ولكنه ليس بشبح.. قاربت في تخمينها الواقع، ولكنها لم تصيبه.. جاءت إلينا مذعورة وعقلها كاد يطير فزعا ورعبا..
قفز أبي من تحت لحافه كعفريت على وقع صوت أمي الهلوع.. لا أدري كيف أستطاع يجمع أشتات عقله في لحظة مربكة كتلك.. أما أنا فكنت مذهولا ومملوءا بالهلع وكأن نازلة جاءت علينا من السماء.. لم أستوعب ما حدث إلا بعد أن هدأ روع الجميع..
هرع أبي ببندقيته النصف آلية بالاتجاه الذي كانت تومي إليه أمي بكلتي يديها، أما كلام أمي فلم أعد أفهمه لما شابه من ارتباك كبير.. الغريب أن الشبح كان الوحيد الأكثر تماسكا ورباطة جأش ومراس..
وضع أبي فوهة البندقية في خاصرة ما بدا لي أنه شبح بثياب رجل ملتثم، فيما الشبح بصوت أنثى كان يتدفق حنين وأنوثة.. كان يحاول أن يهدئ من روعنا وإفهامنا أنه “فلانة” وتعريفنا بما تطمئن له قلوبنا..
اكتشفنا أنها إمرة تنضح أنوثة.. رشيقة وجميلة جدا ومغامرة.. تلبس في دجى الليل لبس الرجال.. ومع ذلك وإلى اليوم تستطيع ذاكرتي أن تستعيد وتستحضر صوتها الذي كان يتدفق عشقا وشوقا ولهفة.. طولها فارع ومخاتلتها مثل نسمة بحر، وفي صدرها حب وهمس وكلام كثير..
بعدها أمي أقامت الدنيا على أبي.. ربما أول مرة شهدتُ أبي ضعيفا أمام أمي متضرعا ومستجديا لها.. أقامت أمي لأبي محكمة بدأت صارمة، فيما أبي كان يدافع عن نفسه بصبر وتوسل وأيمانا غلاظ ليداري ما يمكن أن يتحول ليلتها إلى فضيحة مجلجلة..
كان أبي يدافع عن نفسه أنه برئ من التهمة، وإلا لكان هناك ميعاد يداري به ما يرغب ويريد بعيدا عن أعين أمي.. كان يعرف أن ما حدث يمكن أن يتحول إلى فضيحة بين الناس، ولذلك حشد الحجج والقرائن والأيمان المغلّظة لتبديد تهمة كادت أن تتحول إلى تلبس وجرم مشهود.. وفي المحاكمة سمعت أبي يتهم فلان من الناس أنه من دفعها لتفعل ما فعلته، وتطلب منه بجُرأة مما أعطها في الأمس.. تقولها دون حياء وتطالب به وكأنه بعض من حقها.. كانت تلك المرأة آسرة الجمال، كان أبي أيضا جميل وأجمل من صاحبه..
نال أبي ليلتها نصف براءة أو أكثر منها بقليل، فيما ظل الباقي غيرة وشك حيال أبي طال مداه.. الأهم أن أمي ليلتها لملمت الموضوع مع أبي إثر محاكمة مستعجلة حالت نتيجتها دون ترك أمي دارها والهرب إلى بيت أهلها، وقد كان هذا في بداية الانكشاف وارد ووشيك..
ولكن أستمر تعلق العاشقة بأبي وعرض الزواج عليه، ومحاولة استرضى أمي لمثل هذا الزواج والتعايش معه، ولكن لم تظفر بموافقة والدي، وبعد يأس ورفض أنشدت:
“صافي البدن يا عطر بالزجاجة *** شهويك هوى ما أشتى ولا زواجه
***
وبقي العجب.. يا لها من عاشقة شجاعة، وليل مسكون بالعشق المؤجج لواعجه.. رحلة عشق من هُلام وانفجار إلى انبثاق وجود يتحدّى العدم.. كيف بمقدورنا أن نحتمل هذا الامتحان العسير والجمال باذخ يتحدّى موانعه.. أقام العشق وحل في أعماقنا حتى صارت أقداره أكبر من هذا الوجود ولّاد الخلائق..
جمال يعبُر حدود الموت للقاء بمن نحب ونعشقه.. غواية تستحق عبورنا، وخطيئة كالمعرفة تستحق التضحية.. نحن ضحايا وجودنا.. لا أجحد نعمته ولكني ألتمس للعاشقين حد الموت أعذارهم.. ما أصعب أن نرى من شرفة الكون هذا الجمال البهيج ولا نعشقه.. كيف لفراشة أن ترى كل هذا الضوء دون أن تطير إليه وتنتحر..
لطالما تمنيت أن تكون “الأشباح” كهذه الجميلة العاشقة.. يا ليتها تتربص لنا في كل ليل وعتمة.. تمنيت أن تزداد شوقا ولهفة، وتزورنا كل ليلة إلى مراقدنا بهيام ودهشة.. ومن دون أبواب أو مواعيد.. وأكثر منه تمنيت أن تسكن دورنا طوال ليالينا المعتمات، ونحن نقيم في أفئدتها طوال ساعات النهار..
هذا العشق اللاعج والجمال الباذخ رونقه، يزيد الوجود ابتهالا لرب هذه المعجزة.. نقولها بصوت محتج مختنق مهما أدعيتم ورميتم “الأشباح” بكل الجرائر والتهم، فهي في أسوأ حالها إن أفترضنا صحيحها، أفضل ألف مرة مما يفعله بنا بعض أبناء البشر..
عشق وشوق تحدّى الموت وما حاق وحف بالخطر.. مغامرة تنكرت في ليل مدلهم حلكته.. عبور مختنق للوصول إلى من نحب.. العشق المُخاطر بصاحبه.. عشق تحدّى لعلعة الفضيحة، والقتل رميا بالرصاص، وعقوبة الموت رميا بالحجارة.. طابت روح المسيح الذي قال: “من كان منكم بلا خطيئة.. فليرمها بحجر.”
سلام لأشباح تمارس وجودها ممالك عشقها من أول الليل إلى آخره.. سلام لها وهي تتسلل كالنسائم إلى تحت المعاطف والألحفة.. سلام عبق بعشق وزهر وعطر.. والتنكر سلام للعبور في حقول ألغام العيون.. واللقاء بلا مواعيد أكثر مفاجأة ودهشة..
أهلا بأشباح العشق أول الليل أو في لجته.. تحت سترته أو في معطفه.. في صلاة الليل أو تهجده.. أنا لا أجحد نعمة الله، ولكني فقط أكره الحرب، وأقارن بين الجرائر.. الحرب جريمة كونية تقتل كل النعم.. تسفك الدم، وتقتل الحياة، وتصلب الحب، وتسيء إلى هذا االوجود العظيم..
في هذه الأيام التي تأكل نفسها وتقتاتنا معها، صرنا نبحث عن العشق فلا نجده حتّى في أحلامنا وليالينا الداجيات.. أيامنا صارت تكتظ بالحروب والمقابر.. أنهار من الدم، والدموع الهواتن، وجوع ومجاعة بلغت بقلوبنا الحناجر.. نحن نذود عن الوجود، ونراكمه حياة وحب وعمران، ونقاوم جوعنا وفناءنا وهذا الموت الجائحة..
نحن لا نجحد نعمة، ولكننا نحتج وندعو ونبتهل..نستغيث بحشرجة الموت وغصته، طالبين نجاة أولادنا من جهل عرمرم، واجتياح موت عريض يُهدد وجودهم والنسل والضرع.. المجاعة كارثة تجتاحنا كل يوم بتكرار وقسوة، وحصار مميت من كل حدب وصوب يطبق يداه بقوة الحديد والموت على حناجرنا المتعبة، حتى لا يسمع العالم أنيننا وجوعنا ومآسينا العراض..
ونحن بصوت الصبر المراكم في وجه هذا العبث، وهذه الحرب الضروس، نطلقها بصوت يفتت الصخر: أوقفوا الحرب.. دعونا نعيش.. دعونا نحب ونعشق؛ فجريرة العشق مهما أوغلت في عشقها تظل دون الحرب بمليون ومليون ضعف.. المجرمون من يستسهلون القتل، ويسفكون الدم، ويستبيحون الحقوق، ويسوقون الموت تجارة لا تبور، وليس من أحترق في مجمرة الحب والعشق اللذيذ..
“أوقفوا الحرب” صرخة نطلقها من أعماقنا ونحن نحمل نعوشنا على كواهلنا المتعبة.. نستغيث من وسط زحام الموت، وهذه الحرب الكارثة التي لا تريد أن تنتهي.. عالم متصحر وصخري الضمير، ولكن لعل رهاننا على بقايا ضمير ندي يفعل شيئا في وجه الموت العريض وهذه الحرب، والدمار والخراب الكبير..
لم أكفر والجوع كافر، ولم أجحد نعمة في ليل أو نهار، والحرب تهرس المفاصل والعظام.. ولكني أحتج بمرارة من يحمل نعشه وتطلع روحه، على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشب في عينه.. من يرى العشق جريمة بحجم السماء، ويرى الحرب جهاد وغفران وعزة وسؤدد..
***
- الصورة تعبيرة وهي لملكة جمال الكون 2021
يتبع..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page