طيران بلا أجنحة .. أفول وغروب..! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
عندما بدأ عمر أبي يذوي كشمس غاربة تجر بقاياها وذيولها الحمراء الشاحبة، ويتنهد الجبل أحزانه وذكرياته، وما يجيش فيها من حنين وألم وعتب، بدأ أبي يتحدّث عن الموت، وكأن الموت بدأ يناوش أطرافه، وتحف أنفاسه على رأسه، ثم وجدتُ أبي يجمع جأشه ويقينه بنفس مطمئنة، وحفر قبرين متجاورين له ولأمّي التي كانت تعاونه في حفرهما، وكانا كلاهما قد قرّرا أن لا تنتهي العِشرة وما بينهما من حميمية بموت أو قدر، وأن يتحدّيان الغياب، ويسكنان جوار بعض في “العالم السفلي”، ولابأس أن تأخر احداهما، وتقدّم الآخر، وعلى من يسبق أن ينتظر صاحبه حتى يأتي إلى جواره دون عجل أو نفاد صبر.
لازلتُ أذكر كلمات أبي وأنا أغادره في أخر لقاء به، حالما كنتُ عائداً إلى صنعاء بمعية ابن عمي عبده فريد، وهو يبلغنا أن العمر يأزف، ويخبرنا أنه لم يبق منه إلا قليل وضئيل، ويحثّنا بما يشبه الوصيّة أن نكون مع بعض، وأن نتحمّل مسؤوليتنا نحو من حولنا أخوات وإخوة، ونعينهم لأنهم أحوج إلينا، ونعين أنفسنا بمساندة بعضنا لمواجهة ما هو قادم ومجهول.
وفي غيابي وقبل يومين من وفاته طلب حضور ابن عمي عبده فريد إلى عنده، والذي صادف أنه كان في زيارة للقرية، وحثّه بالحفاظ على العلاقات الأسرية، وخص بالذكر الاهتمام بأخوينا صالح وعبدالكريم كونهما أصغرا سناً منّا، وعقب “أما احمد رغم تصرفاته إلا أنه لا خوف عليه”.. وشدد على التأخي والتآزر الأسري.
أبي وأمّي ومنذ حفرا قبرهما باتا يتجهزان لوداع ينتظر.. رحيل قادم وإن تأخر قليلاً أو حتّى كثيراً، فمن يسبق الأخر يصبر عليه، ولابأس على من تأخر رعاية من لازال محتاجا أو قاصراً منّا، أو يحتاج إلى سند وعون.
مات أبي في عام 1997 على نحو لا يخلو من غموض، وبعد عشرين عاماً من وفاته، توفت أمّي في صنعاء عام 2017 بمرض الكوليرا، وكانت وصيتها الوحيدة والأخيرة أن نسافر بجثمانها بعد موتها إلى قريتنا لمواراتها جوار قبر زوجها، وبنفس القبر الذي سبق أن تم تحديده وتجهيزه، في حميمية لا تنتهي.
لقد كانت وصيّة أُمّي لا تخلو من صعوبة، في ظل حرب قذرة تم التخطيط لها ورعايتها من أطراف أكثر انحطاطاً وقذارة، وظروف أكثر من سيئة تكالبت علينا من كل حدب وصوب، وموانع ومخاطر جمّة، وكان عليّ أن أفي بتنفيذ تلك الوصية، وتم تحقيق أمنية أُمّي بعد وفاتها لأستريح وتستريح، وترقد جوار أبي باطمئنان وسكون.. لروحهما السلام والسكينة الدائمة إن كانا في علّين أو في عالم سُفلي، أو حتّى في حكم العدم.
ذهبا دون عودة، وخلفّا لي حيرة لا متسع لها.. حيرة تتنهد بحراً من الغموض والأسئلة.. غصّة تغصُّ بغابة من الشوك في حلقي المثخن بالجراح تمنعني من البوح، وإطلاق العنان للأسئلة، أو محاولة الإجابة على ما هو ممكن، في مجتمع متشدد ومتزمت، وغارق في تخلفه، يطبق الجهل عليه قبضتيه بإحكام واستماتة.
عشتُ وما زلتُ أعيش واقعاً ثقيلاً، لا يكتفي أن تعيشه راكضاً من الولادة حتّى الموت، بل وحاملاً ما يكسرُ ظهرك، ويهدُّ حيلك.. واقع يرفض أن يمنحك فسحة، أو برهة زمن تستعيد فيها أنفاسك اللاهثة التي بلغت حد طلوع الروح.
أثقلت الأحزان كاهلي، وقوّست الأحمال ظهري.. أنا منهك جداً، والمقادير السيئة لا تريد أن تنام، أو تتركنا دون أن تنال منّا كل منال.. المصائب تدركنا إلى كل مَهرب وملاذ، والطرقات مخنوقة بالدم، والضحايا ما أكثرهم، والطيبون يتم استرخاص دمائهم حتّى بات قيمة المواطن لديهم في الحرب وبعدها، أقل من قشرة بيضة.
الكوارث التي يصنعها البشر باتت أكبر من الكوارث التي تشتد علينا من الأرض والسماء.. الموت باذخ جداً حتّى ضاقت بنا المقابر، والفقر يبتلعنا ويتسع كل يوم، ويكتسح كل من نجأ منّا، ويشد وثاقه وخناقه على بطون الجياع، فيما الأطفال يموتون بكل شيء، وتموت معهم الآمال والأحلام، وتحل المآسي الثقال في كل بيت، وأكثرنا ما عاد له بيتاً أو خيمة أو وطناً، وأكثر منه لم نعد نقوى على شراء كفن أو قبر.
***