طيران بلا أجنحة .. عيد مشبع بالخيبة..! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
الإهداء إلى صديقي الودود الذي قرص اذني وقد تجاوز عمري الستين
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد الكبير.. عيد يتم انتظاره طويلاً وبصبر يكاد ينفد في عشية مجيئه.. يتم استقباله في الصباح الباكر بفرح دافق، وسرور يغمر وجه الكون، غير أن عيدي ذلك العام كان مكروباً، ومثقلاً بالحزن.. أشبه بميتم لأم رحلت وتركت صغارها.. شعور كثيف باليتم.. عيد أحسستُ فيه أن قدراً أفسده، وسوَّد صفحته!!
كان عيدي موجوعاً بأمي الحانقة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار استمر، وزاد عمّا يحتمل.. عيدي بعيد عن أمي غربة طوتني نكداً وفقدانا.. أحسستُ بخيبةٍ تراكمت، وأكتظت داخلي حتّى بلغت بي حد انبعاجي بها..!!
الوحشةُ والغربةُ والحزنُ سكنوني مجتمعين في يوم العيد التي كان يفترض أن يكون عامراً بالبهجة والفرح والمسرّات.. في العيد يتسربل الصبية بالفرح ولباس العيد؛ ترى البهجة في عيونهم كالعصافير، وفي محياهم نور على نور.
وجوم ورتابة وتجهم جل ليالي العام، وحدها من تكسرهُ بهجة العيد، وتُمزق سوادهُ فرقعات “الطماش” ووميضها. السرور يوم العيد يغمرُ المُهج، والقلوب المتعبة تنتظر صباح العيد فيأتيها شلال من فرح.. أمّا أنا فشأني تكدَّر وأفسده قدر.. عيدي بات كئيباً بما أفسده.. هذا العيد لم يفسدهُ غياب أُمّي فقط، ولكن أفسدته أيضاً وشاية ابن جارنا الذي زعم أنني سرقتُ “الطماش” من دكان أبي.
أريدُ أن أهرب إلى أمّي التي حنقت من أبي قبل أيام قليلة من العيد، وذهبت إلى بيت أهلها، ولكني مازلتُ أذكر المرّة السابقة التي أعادني أبي من هروبي مرغماً، ومجروراً بشحمة أُذني طول الطريق الطويل.
لم يكتفِ أبي بجرِّي من أُذني، ولكنه أيضاً وضع حصاة بين أصابعه وشحمة اذني، وظلت أصابع أبي تضغط على الحصاه وشحمة أذني لتزيد من وجعي وألمي، وهو يجرّني بوجه مائل وكأنه معتول من عنقه.
كنتُ كلّما شعرتُ أن الألم لم يعد يُحتمل في الإذن اليمنى، وأحس أنها تكاد أن تنتزع من مكانها، طلبتُ من ابي أن ينقل أصابعه وحصاه، وعتلي بالأُذن الثانية!! كان يستجيبُ لطلبي بلطفٍ على غير عادته، ولكنّه في المقابل لم يرخِ أصابعه عن إذني، وعن الحصاة التي كنتُ أظنّها من الألم قد اخترقتَ شحمة الاذن. تقارب الوقت بين هذا الانتقال وذاك بسبب الألم، حتّى تبدّى لي الفرق بين الأذنين، قد بات أضيق مما بين الحاجبين، فيما الألم المشتعل يتمدد من اذني إلى وجهي وما دونه، ويلسع رأسي شرراً كسوط جلاد.
أحياناً بسبب صغير وبحجم أصغر من حبة الفول، كان والدي ما يكفيه أن يشعل حيالي حرباً، أو هذا ما كنت أتخيله بسبب قسوته.. ربما أبدو هنا مغالياً، ولكن وقع ما حدث في نفسي المرهفة، وصغر سنّي، وحساسية شحمتي اذناي حتى خُلته مقارباً لما أتحدثُ عنه.
***
والشيء بالشيء يذكر .. رغم كل شيء ما زلتُ أكنُّ كل حب وتقدير وتفهم لوالدي، غير أن هذا لم يخمد تمرُّدي، وما زلتُ متمرداً إلى اليوم، وقد تعديتُ سن الستين من العمر، وربما بتُ أطرقُ باب الكهولة.
أحد الزملاء الأصدقاء المسؤولين في صنعاء، والذين أشعر بلطفهم معي، وحرصهم نحوي، وما زلتُ أحفظ لهم قدراً من الود لتعاونهم معي، والدفاع عنّي في غيابي، تفاجأتُ في إحدى مناسبات العزاء والفقدان، وهو يبحث عن إذني ليقرصها، وقرصها بالفعل، وهو يقول لي بنبرة طافحة بالحرص والمرارة التي غلبت صبره:
“تعبت من الدفاع عنك.. الرئيس قده لك للنخر.. ملفاتكم جاهزة.. أوقع رجال”.
أثق بمحبة هذا الصديق وبمصداقية ما قاله، وسأظل أودّه، ولكنّي لم أستطع أن أوعده بما ينال من ضميري، أو الرجوع عن تمرّدي، وعمّا عشته من رفض وتمرد طوال حياتي، بل وأوعدتُ نفسي أنني سأظل كذلك، وبأي كلفة، حتى يداهمني الأجل الذي يبدو أنه قد بات منّي يدنو ويقترب.
زعم بعض رفاقي أن ما حدث فيه إهانة بالغة، ولكنني نافحتُ دفاعاً عن صديقي، وتمردتُ أيضاً على رفاقي، وعمّا ذهبوا إليه في تصوير الأمر وكأن تلك الإهانة تستوجب رد الصاع صاعين.. دافعتُ عنه بحميّة، كما أدافع اليوم عن أبي، واعتبرتها بدافع من الود والحرص والتحذير. أمّا تمرّدي على واقع الحال، فقررتُ أن يستمر حتى يتم إصلاحه و “لن يصلح العطّار ما أفسده الدهرُ”، ولذلك سيستمر رفضي وتمرّدي حتى يداهمني الأجل الذي لم أعد أتهيبه.
***
ربما دون أن أعلم كنتُ أستفز أبي، وأكثر ما كان يستفز أبي أن لا يراني مستجدياً لرحمته. عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه، وأن عقوقي يتحداه، وأنني أنتقص من هيبته، وهو المهاب.
عدم مناجاة عطفه كانت تعني لأبي أنني أتجاسر عليه، وهذا يثير غيظه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة، وموغل في التحدّي لسلطته، وداعٍ مثير لإعادة اعتباره ومهابته.. إذا ما دعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبّسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت.
في يوم ذلك العيد، وبسبب احتجاجي الكتوم عن غياب أمّي، والتراخي عن طاعته، ووشاية “الطماش” التي أشعلت الفتيل بيننا، حاول طعني بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون أن تطالني، وأصابت ابن عمي عبده فريد في يده.. ربما قصد أبي تهديدي فقط، أو داهمته نوبة غضب وانفعال. وربما كنت أنا عاق والده، رغم أنني مازلت حديث سن، ودون العقوق .. من المهم هنا وفي غيابه أن ألتمس له أكثر من عذر وسبب.. يومها تحوَّل العيد في وجهي إلى أحلك من ليل، وأكثف من ظلام سرداب سحيق.
هربتُ منه مائة متر أو أكثر من هذا بقليل، فيما أبي يحاول رمي بالرصاص أو هذا ما خلته حال ووشيك.. تداريتُ بجذع شجرة الجمّيز. كنتُ أختلس النظر من محاذاتها، فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران، وقد أصابه المصارع بطعنة من سيف.
العراكُ على أشدّه؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي، فيما هو يصر على محاولة إطلاق الرصاص، وربما ما فعله كان مجرد تهديد لا أكثر، ولكن ما كان يدور في خُلدي هو الجدية الكاملة.
كنتُ أسائل نفسي بهلع عمّا إذا كان بمقدور الرصاص اختراق جذع شجرة الجميز فتطال جسدي.. شيء لم أجربه ولم أسمع به، ولا أدري قدرة ما يوفره جذعها من حماية.. ربما أطمن نفسي أن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! ثم أشك وأرتاب.
غير أن المسافة بيني وبين أبي لازالت قصيرة، خشيتُ أن يتمكن أبي الإفلات من ماسكيه، فرجحتُ قراراً بدا لي أكثر أماناً، وهو أن أستفيد من لحظة العراك، وأطلق رجليّ للريح، وأنجو بهروب سريع.. هربتُ والذعر يضاعف سرعتي، كتب الحظ نجاتي، كما كتب أيضاً مزيداً من العذاب والخيبات في قادم الأيام.
في الأمس هربتُ إلى دار أمّي، أما اليوم إلى أين الهرب؟! لا أم لي ولا دار.. رحم الله أمي ودارها.. لا باب لي ولا نافذة غير الحفر في وجه الجدار، وعلى خيار شاعرنا الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح:
“سنظل نحفر في الجدار
أمّا فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار”.
***