طيران بلا أجنحة .. هروب وعودة “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
هربتُ إلى دار “الشناغب” دار جدي ـ والد أمي ـ وأظن أن “الشناغب” هنا جمع “شنغاب” ويعني النتوء، وربما “الشناغب” تعني قمم الجبال الموجودة ظهر ذلك الجبل الذي يعترش قمته دار جدي. لا أستطيع الجزم، ولكن هي محاولة لمعرفة العلاقة إن وجدت بين تلك التسمية والجبال الناتئة خلفه، أو العلاقة بين الدار ذاته والذي يبدو ناتئا في قمته، والجبال المتساندة خلفة متدرجة الارتفاع، والقمم كبيرها يسند الأصغر منها لتبدو رأس القمم نتوءات أو هامات متوالية، وفي هذا المقام يقول عبد الحافظ عبدالله القباطي شعراً:
الشمس تتخاوص قفا الشناغب
والسِّحر يسكب للقلوب مطايب
يبعدُ دار جدّي هذا عن منزل أبي بحدود خمسة كيلو مترات، ويقع في منطقة قريبة من حدود دولة الجنوب، التي كانت تعرف باسم “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”. يبدو هذا الدار من بعض تفاصيله أنه كان داراً حربياً، في رأس أحد الجبال، تسنده جبال أكبر وأعلى، وينفرد بوحدته فيها، وتوجد منازل عديدة في بعض الجهات المقابلة له شمالاً وجنوبا، وأسفل الجبل يوجد وادي يُسمّى وادي “الصِدر”.
وفي الجوار الملاصق للمنزل خزان ماء أرضي، وفي الدار كُوَّاتٌ، وشقوق طولية ضيقة، يمكن استخدامها في المراقبة، وإطلاق النار من البندقية إلى الخارج، حيث تسمح بمرور ماسورة البندقية إلى الخارج بقطاع وزاوية معيّنة، ويبدو أن هذا الدار قد شهد شيئاً مما خصص له في زمن مضى وانقضى.
أمّي سكنت هذا الدار قليلاً من الوقت قبل مجيئي، وقطنته أنا فترات قصيرة بصحبة أمّي في عهد طفولتي، حالما كانت أمي تحنق إليه من أبي. كنتُ أستأنس هذا الدار وأهله في طفولتي، وفي نفس الدار ولد أخي الأصغر عبدالكريم، الذي فرحتُ به كثيراً يوم مولده، بعد انتظار طال لأخ سيأتي بعد خيبات متكررة. كان جدّي سالم مانع – أب أمي – يملك أيضاً داراً أخر اسمه “دار موجر”، وتفصله مسافة قريبة من “جن الداجنة”، ويبعد حوالي اثنين كيلو متر من منزل أبي.
جدّي هذا كان رجلاً فاضلاً ومسالماً وعرفته زاهداً.. طيب القلب، ونقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته اليومي في قراءة القرآن والتحدث في تفاسيره وقصصه وأخباره.. كان تقياً، ورعاً، محباً، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شراً، ولم يعر بالاً أو اكتراثاً للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقاً ثمناً لأفعال الساسة، “قومية” و “تحرير” .. مشايخ “عليان” و “سفلان”.
***
أقبل أبي غضوباً وثائراً بعد ساعة أو سويعات قليلة من هروبي، رأيته من دار “الشناغب” دون أن يراني.. كنتُ مترقباً مجيئه، وكان حدسي في محله.. رأيته يمتطي حماره الأبيض الذي يشبه الحصان.. كان يعتني به ويهتم فيه كثيراً، وفيما أنا أرقبه وهو ممتطى حماره في الوادي، رأيت بندقيته مسطوحةً أمامه، مستعداً لاستخدامها في أول وهلة يراني فيها، أو هذا ما دار في خلدي لحظة مشاهدتي لبندقيته.. شعرتُ في مَقدمِه شراً وناراً تستطير.. أنخلع قلب أمّي الهاربة في بيت جدّي على ابنها الذي قد يطاله شر أبيه.
لحظتها أخذتُ قراري بمفردي.. لم أشرك أحداً فيه، وكان اتخاذ هذا القرار في لحظة ضيق وجزع.. كان اتخاذه تحت وطأة شعوري أن حياتي مهددة بالرصاص، أو مجهول مفزع سيأتي.. كان دافعي الأول هو النجاة مما سينالني منه، والبقية تفاصيل.
خرجتُ مذعوراً من الدار إلى الجبل.. اتجاهي كان نحو حدود دولة الجنوب.. أمامي مسلكاً وعراً، وجبالاً متراكمة لا أعرف لها طريق، ولكن الخوف الذي داهمني كان أكبر وأعظم منها.. ربما دار جدي لن ينقذني مما أنا فيه.. لعل هروبي نحو الجنوب أجد دولة تنقذني من جور أبي.. ربما أجد هناك نظام يتولَّى حمايتي، ولجم حماقة أبي.. شيء من هذا حدّثتُ به نفسي يومها.
واليوم يتبادر إلى ذهني وجه السؤال: هل يشبه اليوم البارحة؟! فأجيب: جنوب اليوم لم يعد كما كان.. لم يعد لنا بقايا وطن.. لا مقام هنا ولا رفعه هناك.. لا مجير هنا ولا مجير هناك.. بتنا هنا وهناك بلا دستور ولا قانون ولا دولة ولا نظام ولا أمن ولا أمان، ولا لقمة عيش كريمة.. كل الأمكنة بيّتوها جحيماً في جحيم أوّلها هنا وليس آخرها هناك.
***
وفيما أنا أهم بالتوجه إلى الحدود عبر مسلك وعر لم يسبق لي أن سلكته من قبل، أو حتّى تخيلته.. خالتي مريم ـ أخت أمي ـ أبلغت والدي أنني تركتُ الدار، وهربتُ إلى الجبل. كانت خالتي قوية الشخصية.. صارمة وحازمة.. تجيدُ الاستبسال والمواجهة، والتحريض أيضاً، وقراءة كتاب “الرمل” وفك طلاسمه، والتعاطي معه بما ترجوه.
أدرك أبي وجهتي، واستطاع الإسراع بحماره إلى الجانب الجنوبي الغربي من الوادي، ليقطع وجهتي في الجبل، ويحول دون وصولي إلى تجاوز الجبل الأول في اتجاه الحدود.. رأيته يشهر بندقيته، ويوجهها نحو الجبل الذي أنا فيه؛ فاختبأت خلف نتوء صخري في كنف الجبل حالما شاهدته يحاول قطع اتجاهي وطريقي.
وبعد طول تفاوض مع خالتي مريم، ورجال خيِّرين من عابري السبيل، التزم أبي أن لا يؤذيني، مقابل أن أعود إلى منزله.
ربما شعوري المبالغ فيه جعلني أفكر أن أبي بات يستقصد حياتي.. طفل يبحث عن فرصة نجاة من أبيه.. نادتني خالتي بأن أعود، ولن يلحقني شراً أو ضرراً منه، وبعد توجس طمأنني الجميع أن الأحوال ستكون لطيفة، إن لم تكن على خير ما يرام، ولن يحدث لي أي مكروه؛ وكان أبي بعد أن أدرك وجهتي، قد وعد أمام مشهد من الناس ألا يلحق بي ضرراً أو انتقاماً.. شرطه فقط أن أعود إلى منزلة.. ربما بدأ لي الأمر أشبه بصفقة ممكنة.
نزلتُ من الجبل بعد ما يشبه عملية تفاوض قادته خالتي من جهتي، فيما عاد أبي وهو يبلع غيظه، مستشعراً بعدم الرضا؛ لأنه لم يشبع انفعاله، ولم يشفِ غليله الفوار.
عدتُ بموكبٍ يحيط بي.. كانت بعض النسوة وأختي من أمي “هناء” إلى جواري يرافقن عودتي, وحوالي خمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي وحماره.. كان أبي ينتظرنا في كل منعطف حتى نقترب منه.
بدأتَ المسافة مع السير تضيق وتضيق أكثر.. وعندما بلغنا منطقة تسمى بـ: “سوق الخميس”، أغلب الظن أن أبي لم يحتمل أن يراني أسجل عليه ما بدا له انتصاراً مستفزاً. استفزه منظري الذي بدوت فيه المنتصر، وساورته الريبة بأنني أُشمت به، وأنال من سلطته وسلطانه.. ربما هذا ما فكر به، حالما كُنّا نتبعه في الطريق، وهو بين حين وأخر يرمقني بنظرات فارغة من التطبيع واللطف.
لم يحتمل أبي ما جاس في صدره الذي ظل يغلي، فثار غضبه فجأة.. تمتم بالسباب المنفعل، وصوّب بندقيته بانفعال نحوي.. حمتني النسوة بأجسادهن؛ وتعالى الصراخ والذعر في المكان. تدخل المارة، وكل من كان على مقربة منّا؛ وانتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهداً آخر للناس بألاّ يُلحق بي سوءاً أو ضرراً، وبر هذه المرة بوعده، ولكن على كره ومضض.
ربما لم يطق ابي أن يشاهد ما تصوره انتصاري المستمر عليه، وحتى لا ينكث عهداً قطعه مرتين أمام مشهد من الناس؛ أعادني إلى منزلنا القديم الذي كان يسكنه أخي علي، وليس إلى منزلنا الجديد الذي يقيم هو فيه.
عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وأهلها، ثم عدتُ إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشـد الندم على ما حدث، وعلى تركها لي أياماً كنتُ خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي.
مر العيد بخسارة أقل.. مر بسلام صعب بعد أن كنتُ أتخيل أنه سيتحول إلى ميتم، أو مجهول لا أعرفه!! كنتُ أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي، رغم المشكلات والخطوب المتعددة التي مرّ فيها هذا الزواج الصعب، وأفلت منها بأعجوبة ربما تشبه المعجزة.
***