مذكرات

(6) تحوّل معرفي جديد لصالح العقل أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي

في المرحلة الثانوية كنت أقرأ وأتأمل وأنا أجوب الصحراء بعد ظُهر أيام الأسبوع التي أختارها، وأوزع الاتجاهات وأذرع كل يوم اتجاها فيها، وأحيانا أقصد وجهة في الاتجاه بزاوية معينة في الصحراء ذات الامتداد العريض، ثم أعود دون أن أسلك بالضرورة نفس الطريق..

 

أوغل في الصحراء إلى أقصى ما يمكنني بلوغه وكأنني أبحث فيها عن عالم جديد، مع مراعاة وقت العودة والغروب، حتى لا يهبط الظلام قبل عودتي إلى مكان السكن في القسم الداخلي..

 

كنت أشعر وكأنني أول بشر يجوب تلك الصحراء المهملة أو التي تبدو بكرا، ولا أثر لافت لفعل الإنسان فيها، على امتداد عريض.. كنت ابدو كأول رحالة على ظهرها يطويها بقدميه..

 

مثلما كنت اطلق في الصحراء صوتي العالي، كنت أيضا أطلق العنان لعقلي المتسائل، وأمام الشك كنت أفتح الباب على مصرعيه.. كانت الحيرة المتسائلة تستحوذ على كثيرا من تفكيري..

 

كان التناقض يحتدم بين التصورات التي تنشّأت عليها، وما تعلمته في مادة التربية الإسلامية من جهة، وبين ما أتعلمه في الجغرافيا والأحياء والفلسفة وبقية العلوم.. كانت الأسئلة تحفّز عقلي ووعيي الذي لازال طريا وقليل المعرفة.. أتطلع بشغف لمعرفة كل ممكن وجديد..

 

عرفتُ وبتراكم معرفي أن التسليم لا يصنع وعيا ولا معرفة، بل يصنع تخلفا وخمولا وبلادة.. الجدل والتناقض والبحث عن إجابة على الاسئلة التي تعتمل في الوعي ـ حتى ما كان بسيطا منها ـ هي من تخلِّق المعرفة وتضيف إليها، وتراجع مع ما علق في الذهن من جهل و وعي زائف وفهم خاطئ للأشياء والظواهر..

 

كانت الأسئلة المشككة تفتح ذهني لمعرفة أكثر، ومنها بعض تلك الأسئلة العصية على الجواب، والتي كانت تغضب منها أمي في عهد طفولتي البريئة والمتسائلة..

 

كنتُ أتأمل الصحراء وأوغل فيها أكثر رغم هجيرها ولفح الريح والرمال الحرّا.. كنت أسأل نفسي: هل كانت هذه الصحراء على هذا الحال منذ أن وجدت الأرض أو خلق الله البسيطة؟!

 

كنت أتوقف على قطع من الأحجار الصغيرة والغريبة عنّي وهي أحجارا سوداء خفيفة الوزن مجدورة أو مملوءة جدرانها الخارجية بالفرغات الكثيرة، والغير متجانسة مع الصحراء وطبيعتها، والواضح أنها قادمة من مكان ووسط يختلف تماما عنها، وكان أغلبها بحجم قبضة الكف أو أكبر منها قليلا، وأسأل نفسي: هل هذه القطع كانت يوما ما أجرام سماوية أو كويكبات تسبح في الفضاء؟! هل هذه بعض من النيازك والشهب التي يرمي بها الله الشياطين؟!

 

وحالما أشاهد القواقع المتنوعة في الصحراء كنت أسأل: هل كان البحر يغطي كل هذه اليابسة؟! متى صعد البحر إلى هنا أم كان البحر هنا ثم أنحسر؟! وهل كانت القواقع درجة في سلّم تطور هذه الحياة؟!

***

أعجبني استاذ الأحياء الفلسطيني فارع الطول وذو البشرة البيضاء والمنتمي سياسيا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو يشرح نظرية “داروين” في النشؤ والارتقاء.. كنت أتابعه باندهاش وذهول، وأنا أحدّث نفسي بالقول: تبدو معقولة ومنطقية إلى حد بعيد أو على الأقل بعض منها، ولاسيما المؤيدة بالأدلة والبراهين، أو التي أيد العلم بعض منها وبدت على درجة مؤكدة أو على مرتبة ما في سلّم الحقيقة..

 

ما كنتُ أسمعه من أستاذ الأحياء لم يسبق أن سمعت مثله من قبل.. كان كلام لافت وجدير بالاهتمام، وهو يتحدث عن سُلم التطور والارتقاء وكثير من التفاصيل.. وجدتُ بعض من مشترك أو مقاربة عن أصل الإنسان بين نظرية التطور والارتقاء لداروين، وبعض ما أورده إنجلز في كتابه أصل العائلة..

 

ربما أحسست بمنطقية النظرية أو جلّها، وهي في الحال الأسوأ لا تخلو من صحيح ومفيد.. استمتعت بطريقة عرضها، وبعض المؤيدات لبعض وجوهها والتي ربما زعزعت بعض قناعاتي وأعترتها كثير من الشكوك، أو صدّعت بعض من مسلماتي الراسخة والضاربة الجذور في وعيي، فضلا عن كونها تبحث للممكن عن آفاق عريضة..

 

أعجبتُ بمادة الفلسفة وبمدرسها الفلسطيني المائل للسمرة والمنتمي أيضا للجبهة الشعبية وبالسؤال الفلسفي المثار “هل الإنسان مخيرا أو مسيرا” والذي لأول مرة أسمع فيه ولطالما ظل يحفّز عقلي ويكشف هشاشة مسلماتي وأنا أتلمّس من خلاله عتبات وأبواب المعرفة..

 

عرفتُ من الفلسفة أهمية الجدل واصطدام وتلاقح الأفكار والنطريات وتوليفاتها وتطورها التاريخي وسيرورة المعرفة عموما.. وعيتُ أهمية الأسئلة والشك في المسلمات لصالح الحقيقة والمعرفة.. أدركت وهمي وكثيرا من وهن المسلمات التي كانت تستولي على عقلي فيما خلاء من سنين عمري الماضيات..

 

أعجبتني مواد العلوم والاجتماعيات إجمالا وشعرت أنها تشكل وعيي، وتصنع فرقا في معارفي المدرسية والعامة.. كانت تطرح على عقلي كثير من الأسئلة التي تقود إلى معرفة جديدة أو معارف أكثر إشراقا في وجه الجهل.. تبدّلت أشياء كثيرة في ذهني الصغير مما كنت أظن واعتقد.. كنت أشعر أنها تضيف لي شيئا جديدا لم أعهده ولم أعرفه من قبل.

 

وفي صف ثالث ثانوي بدأت المسافة بيني وبين ما كنت أعتقد تنزاح لصالح الشك أو بعضه.. استحضرت تلك الأسئلة التي كنت أطلقها وأنا صغير بتلقائية وعفوية وبراءة.. بدأت قناعات جديدة تتشكل وهي قناعات أكثر منطقية ومعقولية وبعضها مدعوما بالأدلة.. شعرتُ أن مفاهيم جديدة تتبلور وتتشكل في عقلي بعيدة عن الوجدان والعاطفة لصالح العقل والمزيد من الشك والإكثار من الأسئلة والتساؤلات..

***

يتبع..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى