طيران بلا اجنحة .. رعي الاغنام “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
(1)
عنف وخضوع
كانت تشاركني في رعي الأغنام أختي “نادية” الأصغر مني، والتي كانت تتعمد معاندتي، وعدم السماع لمناداتي، والتمرد على طاعتي، وتتعامل معي كأنني شيخ أدركه الكبر، وبلغه الخرف، فأضربها بتكرار وقسوة تبلغ أحيانا حد شعوري بالإنهاك، وهذا للأسف ما كررته يوما مع ابني فادي، وهو فعل ما زلتُ نادما عليه بكتمان إلى اليوم.. أتذكره فيحز في نفسي كثيرا، وأحس بأسى وحسرة تدمي القلب.
هكذا يتكرر العنف، وتنتقل القسوة في التعامل، من الأب إلى الإبن، ومن الابن إلى ما دونه. ومثله بهذه الدرجة أو تلك سلطة الرئيس على مرؤوسيه، والمدير على موظفيه. ولا يقتصر هكذا حال على أفراد المجتمع، بل نجده ينطبق أيضا على الدول وعلى ما يسمى بالمجتمع الدولي.
تقوم علاقة الدول في وجها منها على ممارسة إخضاع الدول القوية للدول الضعيفة، والأضعف منها، والتي تعوض ضعفها أو بعض منه بالتعالي والاستقواء على شعوبها، فتمعن في قمعها، وقهرها واذلالها، وتستمر في إكراهها وإخضاعها بكل وسائل القمع المتاحة والممكنة لها، مستخدمة في ذلك ما بيدها من سلطة ونفوذ وإمكانات، وعلى رأسها مقدرات الشعب الذي تمارس إخضاعه.
(2)
الذاكرة بين جميل وبشع
غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها ولكنها لم تبلغ الكُثرة.. رعيتُ الغنم، وكنتُ يومها حدثاً غِراً، أو لازالتُ طفلاً يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.
كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، أنها عصية على التلاشي والزوال، ولم يمحها غروب أو نسيان.
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لازالت حاضرة في الوجدان والذاكرة رغم مرور أكثر من نصف قرن من عمر حافل وصاخب، ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لم أنسها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصي، أو أنا صعدتُ علواً إلى سطح القمر.. ما زلت أذكر أسماء تلك الغنم وأشكالهن وحكاياتهن، وكثيراً من التفاصيل، فيما أجد تلك الذاكرة لا تتسع لمعرفة عمر ابني!!
مازالت ذاكرتي تتَّقد بتفاصيل خلت قبل أكثر من خمسين عام فيما باتت أخرى عصية على التذكر رغم حداثة عهدها، بل وبعضها لا تبعد عن اليوم مسافة مرمى حجر. نفس الذاكرة التي احتفظت بتلك التفاصيل تخونني فيما هو أهم ومن عهد قريب.
***
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة “الأنترفيو” عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهياً ومعلوماً.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة.
وفشلتُ أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة ترتيبهم بفارق عام بين كل واحد وآخر. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحداً منّا لديه من شبهه أربعين. ولكنني أدركت أننا اليمنيون أيضاً متشابهون في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم.
ومن الخلاصة هنا ؛ جميل ومهم أن تحتفظ الذاكرة بكل ما هو جميل، ويبعث على الحنين، ولكن دون نسيان ما هو أهم.
***
وفي العجب أيضا مرارة ومأساة.. ومأساة ذاكرتنا الجمعية اليوم باتت في وجه منها تعيش الكراهية بإمعان، وتتذكر التاريخ البعيد المترع بالدم، وتستعيد أثقال الأحقاد والضغائن والمآسي العراض التي حدثت قبل ألف وأربعمائة عام وما تلاها إلى اليوم.
تاريخنا باذخ بالمذابح والمجازر والأحقاد والكراهية، والاكثر ذبحا وألما ومرارة إننا لا نريد الاستفادة مما حدث بعبرة أو عضه، بل وندأب بجهد جهيد من أجل تكريسه وتكراراه بغباء جم، أو نعيد إنتاجه على نحو مضاعف، واستجراره بكل ما فيه من طغيان واستبداد وتوحش وبشاعة، في محاولة لفرضه على المستقبل الذي لم ولن نكون قادرين على عبور تحدياته.
ما أحوجنا اليوم لتجاوز هذا الركام الذي زاد أحماله على ثقل الجبال.. ما أحوجنا للذهاب إلى المستقبل، والنهوض لمواجهة تحدياته، وبدون ذلك سنظل نعيش الموت والدم والكراهية حتى الانقراض. ولن أقول الأكيد أننا لن نستطيع الخروج مما نحن فيه من بؤس وتخلف وتلاشي.
***
(3)
“بيرق” عنزة لا تصلي
لازلت أذكر “حجب” و”خرص” أم “بيرق”، وتمرد “عنب” التي ينطبق عليها مثل “أينما غلّسه باته”، و”قدرية” و”بحرية” أغنام أمي المساكين. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي عشته يوما وانتميت إليه.
لازلت أذكر “حجب” العنزة اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. “حجب” التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كباً وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم “عين” وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
أذكر العنزة “خرص” التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها. فأسميت ما في بطنها “بيرق” قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي.
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا ” وأنا عشقت “بيرق” قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها. لقد كان عشقاً آسراً وأخّاذاً، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير.
عشقت “بيرق” وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضاءهُ وأعنتهُ.
خرجت “بيرق” من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سواداً وبياضاً.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت “بيرق” الجرعاء من دون قرون.. “بيرق” لا تحب الحروب. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري. مسالمة كالحمام. بياضها كبياض الثلج. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد.
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية. أهتم بها يوماً بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت “بيرق” تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الديناصور، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعباً يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج.
ربما “بيرق” لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاداً وأهلها بالماء الطهور. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.
تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع.
***