(9)
رسالة ثانية إلى أبي
أحمد سيف حاشد
حرب ضروس يا أبي، هي تلك التي نعيشها اليوم، بل وقد باتت حروب باذخة ومتعددة، تهاجمنا من كل حدب وصوب، وتسحقنا كل يوم بتكرار ثقيل.. نهلك فيها ونجوع منذ سبع سنوات طوال، وصمت العالم المتحضر يتواطأ مع الحرب لتطول أكبر فترة ممكنة، وضمير العالم مُلجوم بمال النفط، ومصالح الدول التي تقتات وتعيش على الحروب والضحايا..
بتنا يا أبي ضحايا محاصرين ومقموعين.. تتزاحم علينا أسباب الفناء من كل صوب واتجاه.. محارق ومهالك وأوبئة.. جوع ومجاعة ومخافة.. سجون ومعتقلات وزنازين.. جبايات لا سقف لها تزداد في العام مرتين وثلاث وبتكرار مضاعف لكثرة الجباة.. وأسواق سوداء تزيد سعر الضعف ضعفين، وقد باتت تنتشر كالفطر وتنهشنا كالضباع..
عاد الاحتلال يا أبي.. احتلال يتمدد كالسرطانات في أجسادنا، ونفوذ يتم تقاسمه، وسلطات أمر واقع بالغلبة تفرض نفسها.. لا هم لها غير اخضاعنا إلى أجل غير مسمّى، وكل ما مرت الأيام غلظت سُلطة الإخضاع، وأوغلت في طغيانها، وأمعنت في إفقارنا، وحمت فسادها الذي تغوّل، وأسواقها السوداء التي بات لا يفوقها في الدمامة غير وجه السلطة نفسها، والتي تبذل كدها وكديدها لحماية نفسها منّا نحن الضحايا والجياع..
نحن نحترق يا أبي، ونار النفط تذكي ما خمد.. العالم حولنا يمارس حربه ضدنا لنهب بلادنا وتقسيمها.. لفرض الوصاية واحتلال بعضها، ونحن الفقراء فيها تسحقنا الحاجة والعوز.. ولأن عدونا يملك المال والنفط والعمالة التي تتماهى ولا تعترض.. كل المسوخ توالدت حتى صارت كالأحذية في المستنقعات الموحلة..
عذابنا لا ينتهي.. كل يوم في الجحيم يا أبي نشتوي ونصطلي.. حشودنا لا تنقطع ومواقده لا تنطفي.. نحن زيت نارها.. أبناؤنا أفواجها.. وتستمر المحرقة.. تجارها يحتفوا بفنائنا.. يتفيدون نزيفنا.. يتخمون أرصدة.. أرصدة في أرصدة.. شعبنا يحتشر في مقتلة.. تلك الحروب ليست حربنا.. شعبنا صار المطايا والوقود والضحايا.. وعندما قلنا اوقفوا حروبكم غضبوا وكشّروا في وجوهنا أنيابهم كالضباع والذئاب..
نحن كنّا ولازلنا ضحايا حروبهم.. ضحايا من اشعلوها وداعميها.. حروبهم طالت وتمددت حتى بلعت تخومها.. كم هي هذه الحروب دميمة.. أطماعهم كجهنم وجحيمها.. موت لم تعد المقابر حيلها.. خراب وفساد وطغيان يجتاحنا.. ما عاد فينا للصبر ذرعا أو مُتسع..
احتلال وحشي وهمجي.. وعملاء أرخص من الملح يا أبي.. حوامل تنافست لتكون أكثر ابتذالا وسفالة وسفه.. كائنات لا تخجل ولا تستحي.. مستعدة تفعل بشعبنا كل شيء.. تتنافس على لعناته لتنال رضى أسيادها.. تافهون بلا حدود.. واقع مرعب خلّفوه لنا ليقول التاريخ من هنا مرّوا، ويقول كل قائل “هنا كانت يمن”..
تم قطع أسباب عيشنا.. قطعوا أرزقنا.. سدوا كل أبواب العيش الكريم.. فتحوا أبواب الفساد على مصرعيها.. وجعلوا الارتزاق مفتوحا بلا أبواب.. فتحوا أبواب الجحيم كلها لنكون المحاطب والوقود يا أبي.. ونكون فُرجة مترفيها.. سبع سنوات من الحرب والفناء.. ومن لم يمت بالحرب مات من الجوع والحزن والكمد.. افترست شعبنا هذه الحروب المُهلكة، وزادت تؤازرها الأوبئة..
***
هي الحرب التي قال عنها الفيلسوف الوجودي سارتر يشنها الأغنياء ليموت فيها الفقراء، وهي الحرب ذاتها التي قال عن مأساتها “سوفوكليس” أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريق بأنها تنال من الخبيث بالصدفة، أما الطيب فدائما ما تنال منه..
نحن الطيبون نالت الحرب منا مقتلا يا أبي.. نلنا من الحرب وبالها ومآسيها العراض.. الحرب التي تنتهي كما قال جبران خليل جبران بتصافح القادة, وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد..
قالها شاعرنا نزار “من رأى السم لا يشقى كمن شربا”.. ونحن نقولها لمن رأى فلما أو قرأ عن الحرب كتابا، ليس كمن عاش جحيمها سبع سنوات طوال.. حروب في حروب، بها شعبنا أشتوى وأكتوى.. ودفع الغالي من دمه.. من أرضه ومقدراته ومستقبله.. نحن فقراء يا أبي وازددنا فقرا مدقعا، وجارنا يتورم مالا ونفطا، وأكثر منهما حقارة يا أبي..
الحرب رعب ومآس.. يتجرد فيها بعض البشر من كل القيم.. يصيرون أكثر وحشية من الضواري والوحوش الكاسرة.. قالها إبراهيم نصر الله: “إن الله لم يخلق وحْشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحْشاً أسوأ من الحرب..” وكأنه يوصف يا أبي من أعنيهم بإمعان..
كان يوما يا أبي لدينا أصدقاء نحبهم.. كشفت الحرب الأقنعة.. وجوههم دميمة وأصابعهم من جذام.. عقولهم مُقفلة وقلوبهم من حديد.. مغرمين بالدم كعبدة شيطان رجيم..
سوق سوداء كطوفان نوح.. أكلوا بقايانا بشراهة الجراد.. مفسدون ذادوا عن الفساد بشراسة الذئاب.. ساديون حتى العظام.. يرتكبون الفضائع في المعتقلات والسجون.. يحاصرون ويقمعون من يبحثون عن حقوقهم.. يتربحون بالحرب يا أبي على حساب شعب يموت حربا ومرضا وجوع..
يتبع..
***
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة احمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page