تغاريد غير مشفرة

من يومياتي في أمريكا .. هنا أموت كل يوم

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

كنت أذهب إلى مطعم يمني راقي لتناول الوجبة اليومية المعتادة.. هي وجبة واحدة على كل حال، ولكني لا أدري ماذا أسميها؛ هل هي فطورا أم غداء أم عشاء!! ما أنا متأكد منه أنها كل ذلك.

لم أستمر زبونا لدى هذا المطعم بعد أن تخيلت قيمة ابتسامة النادل بدولار.. هنا الأسعار لرجل مثلي تشد عليه حزامه.. أسعاره لا تتناسب مع سياسات تقشف أخوض غمارها خوفا من مستقبل أراه معتما أو شديد الغموض.. مجهول أراه يتربص بي كل يوم ويتعقب خطاي.. غادرت المطعم ولم أعد إليه إلا مدعوا إلى عرس أو تلبية لدعوة صديق.

ذهبت أبحث عن مطعم يمني آخر أسعاره دونه.. وجدت مطعم “الأمين” وهو مطعم صغير وأنيق ومديره نادله ومحاسبه.. شخص بدا لي بعد ذهاب وإياب شهما ولبيبا ومترعا بالطيبة.. يبدو أنه أيضا على قدر جيد من التعليم والثقافة.. لماح وصاحب فراسة.. محبوبا من زبائنه.. عرفت لاحقا أن اسمه يونس الصناعي من محافظة إب وكان يعمل في اليمن بشركة “هنت” في وادي حريب.

لاحظت كثير من اليمنيين يرتادون هذا المطعم، وأرتدته معهم.. تفاجأت ببعضهم يبادرون بتسديد حساب وجبتي، وبعضهم يفعلها أكثر من مرة.. بعضهم اعرفهم وبعضهم لا أعرفهم ولكنهم هم يعرفوني.. يدفعون عني ولا أدفع عنهم.. معادلة معتلة ومختلة وموجعة.. 

أنجو أحيانا وأتمكن من دفع حسابي.. أحاول أحيانا أعاجل نفسي وأغادر قبل أن يأتي من أعرفه.. أحيانا أنسحب بخفة قط ووجه يتوارى خجلا حال ما اسبقهم في دفع حسابي ولا أدفع عنهم.. ثقيل أن يصنعون معي جميلا ولا أقدر على رده.. إنه حال لم أعتاد عليه، وحرج أشد إن صنع معي الواحد منهم معروفه مرتين.

***

في يوم اتصلت لصديق لنلتقي بهذا المطعم وكان ما زال الوقت باكرا ولم يسبقني إليه زبون، وحالما كنت قيد الانتظار طلبت فقط طبق سلطة فزاد عليه مدير المطعم وجبة خفيفة دون طلب.. كأنه كان يقول لي تمتع بوقتك، أو يقل لي لابأس من انتظار مدعوم بفطور. 

لفت الأمر اهتمامي.. تفاجأت.. لم أعد أعرف سبب هذا اللطف.. ربما أحسست أن لديه إنطباعا حسنا عني لا أعرفه.. ربما هي معلومة ما سمعها من زبون أكسبته تعاطفا نحوي، أو هو كرما محضا منه، وربما سبق أن شاهدني على طاولة المطعم أتناول الطعام بنهم شديد ورغبة لافتة.

أحرجني كثيرا وهو يرفض أخذ حساب أو سداد.. أحسست بأن الشمس تكسف في وجهي.. أحسست بشعور لست راضيا عليه رغم ثقتي بسلامة نية هذا الإنسان النبيل المتدفق نبل وطيبة.

الحقيقة لا أدري على وجه التحديد ماذا الذي دفعه ليفعل هذا..! تخيلت وهو يقدم لي الطبق بيديه بهدوء تام وحنان غامر، بل أحسست أن من فعلت هذا هما يدا أمي التي غادرت الدنيا وتركت داخلي فراغا كونيا.. تمنيت لو أنها ما زالت على قيد الحياة أرمي برأسي في حضنها وأبكي كمدا حتى الموت.

انتابتني غصة وهو يرفض على نحو قاطع أخذ حسابه.. أحسست إن الناس ربما بدأت تعرف ما أعيشه رغم كتماني والتظاهر إن الدنيا على خير ما يرام، أما وقد بلغ تلك المتورمة بالتفاهة عما أعيشه من حال وتطلق شماتتها للريح، فمعناه قد خرج الحمار السوق، وليبلغ البوح مداه وجعا وحقيقة. 

في لحظة رفضه وعلى نحو قاطع للدفع كدت أختنق.. اكتفيت بقولي له: “كم هي روحك جميلة..!” ولكن دمعة ساخنة باغتتني وتمردت في عيوني وطفرت إلى الخارج دون أن أشعر وقبل أن أتجاوز عتبة الباب.. سقطت دون إرادتي فيما الغصة ظلت عالقة في حلقي.. خرجت وأنا أسأل نفسي يا ترى هل راءها وهي تجيش في عيني..

عموما أنا هنا أموت كل يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى