تغاريد غير مشفرة

طيران بلا أجنحة .. عالم مؤلم..!! “محدث”

برلماني يمني 

أحمد سيف حاشد

خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوماً بيوم، وصار رفيقاً حميماً، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوتراً ومتسمراً في مكانه كاللوح، رافضاً مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقّب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثاً ما لا تحبذ وقوعه، فيما أنا كنت مسحوقاً بالألم ومخنوقاً بالاحتجاج!!

شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كرهاً وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ. كنت أشاهدهُ ممتلئاً بالخوف والفزع.. عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات وغصّات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعتُ من القمع الكتوم.

عيناه هلعتان، ومرعوبتان من سكين تمسك نصلتها قبضة من سيتولى شأن ذبحه. رأيته يتبوّل مرتين في فترة وجيزة في نفس المكان. مثانته تعيش لحظات جزع، وربما تحاول ممارسة الاحتجاج بما تقدر عليه!! رأيته بعد لحظات يجوس في نفس المكان، فيم الحبل على عنقه، وطرفه مشدود بقبضة أخرى تمنعه من الذهاب إلى أبعد منه خطوتين. تتملكه لحظات قلق ورعب وحيرة وهو يذرع المكان الصغير غير مسموح له بتجاوزه، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من سكين في يوم عيد المسلمين!!

مناسبات الذبح لدى المسلمين متعددة، بعضها لا مناص منها بل و واجبة، وبعضها يدخل في باب المجاز. السكين هنا لا تخون ولا تنقلب، ولا يوجد ما يغير الحال، ولا مكان هنا للمثل القائل “من مشنقة إلى مشنقة فرج”، وقد باتت السكين على مدَّة يد واحدة.. لا آية إنقاذ هنا ولا معجزة.. الحقيقة المؤلمة هنا أنها باتت تؤكد نفسها، لا مناص منها ولا هروب.

لا أدري كيف عرف كبشنا أن السكين مُعدّة وجاهزة لذبحه، ما الذي أدراه أنه المستهدف منها، وهو بيت القصيد. لم يسبق لكبشنا هذا أن رأى يوماً سكيناً أو حتّى نصله سكين. لازال السؤال عالقاً في ذهني، كيف عرف أنه ذاهب للذبح والسلخ والموت؟!! حالة من الرعب والهلع المماثل شاهدته في الأرنب الذي تم ذُبحه ذات يوم!! كم هو هذا العالم مثقل بالقسوة والألم؟!

كانوا يقدّمون له الماء في آنية عريضة من قصدير ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس هذا العالم الذي ربما بدت له مؤلمة وقاسية بحق الحياة، ومكتظة بالمظالم.. كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان يعيش اللحظة كثيفة كما هي وبكل معناها.. كنتُ عاجزاً عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصراً، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار.

كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أني أنا من يُذبح أكثر منه، ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكون بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشعاً بذلك القدر!!
***
يا الله..!! لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضاً، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانوناً وجودياً لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألماً منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وتٌزهق فيها النفوس..؟!

كل حيوان له إحساس ونفس مثلنا.. كم تبدو الحياة قاسية وعبثية ومُهدرة. ربما الجميع بات ضحية لقوانين قطعاً هي أكبر منّا، وليس بإمكاننا تغييرها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدافع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئة؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير ضرورية.. نقتل بعضنا حمقاً أو طمعاً، أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحومها بشهية وتلذذ.

كطفل بدا لي الأمر موجوعاً بالسؤال، وببراءة غير ملوثة رأيت العالم مؤلماً جداً، وكل فوضى في هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث أو إعادة نظر. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، ودون ألم ودم.. الرحيل حزين، يعاني منه الأحياء أكثر من الراحلين، ولحظات الفراق ربما هي الأشد ألماً وحزناً وتعاسة.

ربما وأنا طفل أو حدث أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامِ عنّا وعن المخلوقات دوننا، ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله.. قدر لابد منه من يوم فدُي اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر.
***
إنه لمؤسف أن ترعى الحيوان، وتهتم به، وتكسب ثقته وحبه، وتقوم بينكم جسور من الود والثقة، فيما أنت في الواقع تضمر ذبحه وأكله.. شعور مؤلم، وحب ربما بدا زائفاً، وأنانية مفرطة لبني بشر.

والشيء بالشيء يذكر، وفي هذا الصدد عندما كبرتُ وبلغت في العمر بعد الخمسين، قرأتُ خبراً تضمن أن ثوراً باعه صاحبه لحلبة مصارعة، وجلس بين الحضور وحالما كان الثور مضرجاً بالدماء والسيوف مغروسة في ظهره وسنامه ومن حولها ينز الدم ويتدفق، شاهد الثور صاحبه على طرف الحلبة، فانطلق إليه ظاناً انه سيساعده، وهو لا يعلم أن صاحبه قد باعه ليستمتع المتفرجون بموته.

وقيل أن إحدى الصحف الإسبانية علقت على هذا المشهد بقولها: ‏”لا يوجد حيوان في العالم أكثر وحشية من الإنسان”. وبصرف النظر عن صحة هذا الخبر من عدمه، فإنها تحكي جزء من الوقع الواسع والمُكرر.

وقائع لا عد لها ولا حصر تحكي علاقة الإنسان بالحيوان، وحسن ظن الحيوان بصاحبة، فيما صاحبه الذي يرعاه ويهتم به ينتوي في يوم ما أمّا ذبحه وأكله، أو بيعه لقضاء حاجته، وبذلك تنتهي جسور الود إلى حطام مؤسف لصالح أنانية صاحبه.

وربما يعبّر هذا المشهد أو ذاك عن بعض ما يحدث بين الموطن وحكومته الفاسدة والمتسلطة، أو الشعب والسلطة المستبدة التي تحكمه وتعتاش من فسادها على حساب شعبها، أو تُترف وتثري وتتورم فساداً من جوع الشعب ونزيفه..

***

كنت طفلاً، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى اليوم، وأشاهد ما هو أكثر من بشع ومرعب.. حروب وإرهاب وناس يجزون رؤوس ناس تقرباً إلى الله، وطلباً لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال الضاربة جذورها عميقاً في الأرض. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعروا بذنب أو تأنيب ضمير.

إنها لمفارقة باذخة أن نجد في هذا العالم جمعيات للرفق بالحيوان، فيما الدول التي توجد فيها تلك الجمعيات تدعم كل ما يحدث من موت ونهب ودمار وخراب بحق الشعوب.

ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مرعب ومهول. ما كنت أظن أن تزييف الوعي سيبلغ مبلغه، وأن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري أن هناك اكتظاظاً على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب. لم أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة!!

لم أكن أعلم أن أوطاننا سَتَعلَق وتغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف سنة سيطالهما كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويعيث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين!!

ما ظننتُ يوماً أننا سنشهد حروباً مثل هذه الحروب القذرة التي شهدنا رحاها في اليمن سنوات طوال، وأنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع مآسي هذا العالم المثقل بهم!!

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى