مذكرات

طيران بلا أجنحة .. زئير الجريح “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

الإهداء:

إلى ثلاثين مليون إنسان يمني يعيشون المخافات والتعاسات كلها منذ ثمان سنوات طوال.

إلى شقيقتي المعلمة وأبنائها الأربعة الذين ينامون على جوعهم، وتم طردهم من الشقة الذي يستأجرونها في صنعاء؛ لأنهم لم يستطيعوا دفع ايجارها في عهد نهب الرواتب وتحويل المعلم والموظف إلى غنيمة حرب.

إلى ابنها محمد الذي ترك الجامعة لأنه لم يستطع سداد رسومها.

وإليّ أنا الذي لم استطع طباعة وجعي الذي أكتبه.

***

أنا حافل بالرفض والتمرّد ما حييت.. موجودٌ وحيٌ ما زلتُ أقاوم.. سنظل في هذا الضياع العريض نبحث عن وطن.. لن نكل ولن نمل ولن يدركنا يأس أو قنوط.. سنظل نحيي الأمل في النفوس الطيبة.. وإن حاصرتنا ضباع اليأس، واستماتت لتظفر بنا، فنحن “أقوى من الموت” وأقدر على الصبر واجلد.. لنا إرادة فولذها الزمن.. نحن عصيّون على الكسر لا نفقد أمل، دون إغفال لعقل أو لحكمة.

قالوا عنّي مريض، ومجنون!! والبعض قال هذا عميل وخائن ومتصهين..!! وقالوا هذا حوثي ومتحوث، ومن قال هذا يحن لعرق اللبن!!

لهؤلاء أقول: أنا مَلِك نفسي أينما كنت ورحت، لا أقبل أن أكون عبداً لأحد حتى نفسي.. لستُ نعجة في قطيع، أو في الجموع مطيّة.. أنا حر ابن حر، ليس من ديني وعهدي عبد وسيد.. لن أكون عبداً يباع في سوق النخاسة.. لن أكون عبداً حتّى إن دعا للرق ألف نبي، ودعت للنخاسة ألف آية.

عندما يريد الظلم صمتي أقول “الصمت عار”، وعندما يسألني الليل من نحن؟! أجيبه “نحن عشّاق النهار” وحينما يريد الغياب أن أغيب عن العيون أكون أكثف في الحضور.. لمّا تداهمني جحافل النوم العميق، تقرع صحوي أجراس الضمير، وتثور نفسي على صمتي ونومي.. الصمتُ موت.. لا أستطيع الموت صمتاً دون ضجيج.. لا أستطيع الموت مكبوداً ومخنوق الضمير.

أرفض أن يعترشني الظلم مهما أغراني برغد أو نفائس.. قلق التحدّي يجوس داخلي كالأسد في محبسه.. أقاوم الموت في محبس الصمت المسيّج بالحديد.. أرفض كواتم الصوت، وإن كان زجاج يرتشف من التماعات الشموس.. أرفض خوانق صهيل الخيول المشرئبة أعانقها إلى ما فوق السحاب، وألجمة الجموح، وأغلال استعباد البشر، حتى وإن صنعت من كرستال وماس، أو صارت نابضة كالنجوم في كبد السماء، أو النجف والتحف في قصور الأثرياء.

وإن أُرغمتُ على الصمتِ هنيهة، فالمدى داخلي يكتظ صخباً وجلبة.. وإن انزلقتُ إلى ذاتي في لحظة ضعفٍ أو وهن، لا يستريح ضميري من حرب ضروس تحتدم في أعماقي السحيقة، حتّى يدوّي انتصاره في أرجاء واطرف المدى، ويبلغ الصوت المزمجر شماريخ السماء.

في الظلام المدلهم ضميري كان نجمي، وفي رأس المحيط كان ضميري البوصلة.. ضميري أولاً قبل الأنا.. قبل الجميع وإن كنتُ فيهم أنا.. ضميري يستصعب الصمت الجبان في وجه طغيان عرمرم.. عالم يموج بالمرارة والألم، ويوغل في التوحش كل يوم.

بدأتُ متمرداً وعشتُ وما زلتُ كذلك، وقد بات عمري ذاوٍ إلى زوال.. ربما الواقع يملي التريث، والانحناء للعاصفة حتى تمر.. ربما أهدأ قليلاً فسحة لا تطول، أو أنتزع من حرب طويلة استراحة من يحارب، ثم أعود أكمل ما بدأت.. لا أسلّم أمري لطاغٍ يريد تدجيني كنعجة، أو لظالم يمتطيني كالدواب المطيعة.. لازلتُ أقاوم بوعيي والنواجذ واليدين.

***

أطلق صوتك يا مواطن في العنان؛ فالصمت تسكنه القبور.. الصمت موت.. لا تستكِن لطاغٍ أو لظالم.. وإذا كان القدر قد قضى أن تذرع المحبس المسيّج بالحديد، أطلق زئيرك في المدى، واعلن أنك حرُّ ابن حر.. أيقظ الشعب بزئير لا يضام.. أطلق صوتك المجلجل والمهاب.. أكد وجودك واحتجاجك، وابلغ العالم أنك ما زلتُ حياً لم تمت.. ما زلتَ ثورياً تقاوم.

اشرب الماء زلالاً، أو بنكهة ما تريد.. اعشق الحياة المملّحة بطعم التمرد والنضال.. توج إنجازك بالتميز، والتفرد باللذاذة.. حرر معالي الوعي من سراديب الظلام.. من اغتيال الطفولة في سن الحضانة.. تمرد على وصفات الغباء الجاهزة في الجامعات والجوامع والمدارس، ودورات غسل الأدمغة.

تمرّد على الوهم الكبير، حتى لا تعيش مستلباً أو مقهوراً ذليلاً.. إن وجدت الحق بيِّناً، أمسك به واستمت كالغريق.. اقبض عليه باليدين.. عض عليه بأسنانك والنواجذ.. كابر كالسماء ولا تنحني لظالم مستبد.. لا تقبل الذل حتّى وإن صعد بك إلى عرش روما وفارس.. لا تقبل لقمة العيش المُغمسة بالنذالة.. قاوم من يريد أن يذلّك، أو يلغي من الوجود وجودك.

لا تخاتل.. لا تساوم.. لا تتنازَل عن حقوقك.. لا تستمرئ الظلم يوماً، حتّى وإن حُشي بجنة من عسل وفستق.. تمرد في شروقك وغروبك.. تمرد وإن كنت تعيش اللحظة الأخيرة من حياتك أو أفولك.. تمرد على هذا العبث في كل حين.

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى