مذكرات

وجودي و ولادتي بغير إرادتي –  أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي

 أحمد سيف حاشد

وجودي و ولادتي بغير إرادتي

في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..

الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر قليل من ضوء خافت.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يتلاشى في طريق ملوي على قطب الدار.. يصل إلى الحجرة شحوب متعب..

في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء واشياء أخرى، وفي الكوة حلتيت ولبان عربي وبخور.. وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوء منهك بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين.. المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نطفة..

أمي تتلوى ألما.. تعيش لحظات مخاض.. حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة.. يداها ممسكة عُقد الحبل بثبات أملا في عبور جدار من وجع وولادة.. ولولة والألم يمتد ويزداد، والوسواس يوسوس، فيدركها خوف الموت نفاس..

خرجتُ  من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتدا محتجا على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. كنتُ منهوكا ووجهي مكتظا بوجوم وعبوس.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب..

لا حول لي ولا قوة.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي العابث بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إربا.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما أخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة تكتظ بالظلم والعبث المكتظ..

استهديت على تاريخ ميلادي بصعوبة.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان وعام هجري تاهت مني أرقامه.. قالوا طالعك الحوت والبرج هو الدلو.. وقالوا في حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، وقالوا الجدي “شواح بواح” على اسم الأم المتقادم عهده..

يدا العمة زوجة عمي، استقبلت جسدي المنهك من أول طله منكوت الرأس.. قالوا المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات.. هذا ما يُحكى ويشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات..

خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل.. فرحة تموج على وجه أبي.. ووجوه الأخوال تنبض بهجة.. أمّي غمرتها الفرحة.. كان القادم ذكرا لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس.. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى.. لازلنا نعيش الزمن الغابر..

الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة.. ثم يعتادون عليه.. كانت أمي تميزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح صرصار أكبر وأشتد في وجه الدنيا..

كان لخالي صالح باعا في التنجيم وفي “الرمل”.. يبحث في طالعنا والأبراج.. أسماني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدا، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان فيه القول الفصل.. حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة.. صار بعض مني أو صرتُ بعض منه.. تعاندني الأقدار وأحيانا تتخاتل وتخادعني.. حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات، وأهداب تقاتل سيف..

يتوالى السوء والحظ العاثر.. الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ وحصاد لا يشبع جوع.. جهد يُضني وحال يشتد.. الجني قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت أناهز ستينا والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وظنك حياة..

أنا الموجود دون رضاي.. جئت إلى بطن الأفعى.. تلويني الأفعى كي تهضمني على جذع شجرة يبست من عهد، وصارت أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود غصبا عني.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي.. ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عني طرق العودة..

النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغر فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختار مكان وجودي.. ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يتوعدني، أعيش معركة الإرغام ليل نهار.. والمجهول يترصد خطواتي ذهابا وإياب..

لو كنت على وعيي هذا وكان علي أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف.. وجودي قسري رغما عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم..

أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ حياة ووجود.. لست راض بحياة يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست راض عن حال فيه استغلال إنسان لأخيه الإنسان.. يسفك دمه ويزهق روحة في عبث لا تجرؤ عليها وحوش الغاب.. هل قرأت كتاب “الجنس البشري الملعون” لـ “مارك توين”.. أنا من وجد نفسه في مقولة فيلسوف قال: “من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق”.

أحيانا احتفل بميلادي كسرا لروتين العام.. بعيد الميلاد أسافر بعيدا عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجا أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سوادا من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام..

الواقع سيء، والحقيقة مُرة.. قالتها نوال السعداوي.. الحقيقة “وحشية وخطيرة”؛ فألوذ بخيال لأعوض فقداني وكثيرا من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون..

في وجه الظالم أقول “لا” وأكررها في سط ينعم بـ “نعم” طوال العام.. أتذكر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: “المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم.” أدفع كلفتها مهما كان كبيرا.. أدفع كلفتها وأمضي.. أدفع كلفة ولا استسلم.. جحيمي هذا ونزيف الروح بعض منها.

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى