طيران بلا أجنحة .. وجع وأسئلة “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كما أسلفتُ، كانت بعض الأسئلة التي اوجهها لأمّي صغيرة، ولكنها تطرقُ أبواباً كبيرة.. بسيطة وتلقائية، والإجابة عليها ربما تتم بسهولة ويسر، كونها من الإجابات الجاهزة والمعتادة، ولكن إن تناسلت الأسئلة، نجد فيها السهل الممتنع، وربما لا نجد جواباً لبعضها، أو تصير الإجابة محل تعذُّر وصعوبة.
ربما أقبل الإجابات التي تبدو جاهزة، وتنطلي عليّ بهذه الدرجة أو تلك، أو يخامرني قدراً من الشك حيالها، ولكنها أحيانا تكون مدعاة لأسئلة أخرى، وقبولها غالباً لا يكون إلا إلى حين، وتبدأ رحلتي معها من اليقين إلى الشك، وفي بعض الأحيان من الشك إلى اليقين بحسب الحال.
ومن المهم أن أشير هنا إلى أن أسئلتي التي كنتُ أوجّهها لأمّي لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها هنا، ولكن بمضمونها الذي يؤدّي إلى توضيحها، وتقليب وجوهها، والسعي إلى تحقيق مقاربة تجد طريقا يؤدي إلى معناها بوضوح وفائدة.
***
كنتُ أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقلاً يحفظه، أو ذاكرة تجعل من السهل علينا قراءته وحفظه طالما هو كتابه وكلامه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوباً، بل أجد صدّا وغضباً وتقريعاً يمنعني من السؤال ثانية، ولكن ظلت تلك الاسئلة تجوس داخلي، لا تهدأ ولا تستكين، ولم ينجح القمع في إخمادها إلا إلى حين.
كانت أمّي أحياناً تحاول الإجابة، فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقول إنها تقودني إلى الكفر وعذاب النار، أمّا أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته، وخشيتي من عقابه. كانت أمّي أقرب إلى وجداني من أبي.
كنتُ أسأل أمي: لماذا ثابت صالح فقيراً، وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “ن” من الناس غني وهو ظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم إنصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا.
***
وحالما كانوا يذبحون كبش العيد كنت أشعر وكأنني أنا من يُذبح، وتحت هذا الألم الذابح، والشعور الضاغط الذي يجتاحني كنتُ أسأل أمي:
لماذا نذبح كبش “العيد”؟! لماذا الناس في العيد يذبحون التيوس والخرفان؟! أليس هذا حراماً؟! الذبح فيه وجع وألم، والكبش نفسه يُمانع من ذبحهِ، ويبذل ما في وسعه للحيلولة دون هذا الذبح، غير أن الأمر يجري خلافاً لإرادته ورغبته، ويتم على نحو مؤلم يؤذي إحساسي ومشاعري، فيما “أسرته” ستفتقده، ويطول غيابه، وتستشعر بحسرة وحزن وكمد لهذا الفقدان الغير معتادين عليه، وسيعشون فراق الأبد من بعده؛ فلماذا تذبحونه؟!
فتجيب أمّي على السؤال، بقصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، والكبش الذي صار فداء وأضحيه.
وفي الحكاية أن نبي الله إبراهيم رأى في المنام إن الله يأمره بذبح ابنه إسماعيل، ولمّا أخبر إبراهيم ابنه إسماعيل، ما كان من ابنه إلا التسليم بأمر الله، وحالما يشرع في تنفيذ أمر ربه بذبح ولده، أمتنعت السكين عن الذبح، فتعجب إبراهيم وأدرك رحمة ربه، وهو يفتدي إسماعيل بكبش جاء من السماء، فصار هذا الفداء سُنّة إلى أخر الزمان.
شعرتُ بالهلع، وقد ألجمتني أمّي بتلك الحكاية التي كادت أن تشل لساني، وأنا أتخيل أباً يذبح ابنه.. أحسستُ بفزع وهلع يداهمني وأنا أتخيل أبي يذبحني، وشكرتُ الله إنه أنجانا من الذبح وافتدانا بالكباش. ومع ذلك ظلت مظلومية الكباش تحز في نفسي، وتشعرني بحزن وحسرة، وتجوس داخلي، ولا تريد أن تنام.
أسأل أمّي: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟! ولماذا الحصبة التي هددت حياتي ذات يوم، تفتك بالأطفال، وتنال منهم، وتحرم أمهاتهم منهم، وتجبرهم على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنّة.. والجنّة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة، وندخل الجنّة بهما، وسوف تستقبلاننا على بابها.
ثم أسأل عن ماهية هذا الموت؛ فتجيب أمّي أن الموت يأتي في صورة رجل أعور يقبض روح الإنسان، ثم يعود إلى ربه وقد أتم أمره، وكل نفس ذائقة الموت.
فأسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيب أمّي: لأن نبي الله موسى فقأ أحدى عينيه قبل أن يقبض روحه.
لطالما تمنيت أن يكون موسى قد قتله إلى الأب،د وأراحنا من حزن فراق من نحب.
ربما كنتُ بأحد المعاني أثور ببعض الأسئلة، ولم أجد لها جواباً كافياً أو شافياً.. وربما أحسست بمعنى أخر بسخط أو عدم رضى حيال من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
***