(6)
رهابي وجنوني..!!
أحمد سيف حاشد
بين رهابي وجنوني رحلة من الظلم الثقيل، والعذاب المستمر، والمقاومة التي ترفض اليأس والانكسار.. بين هذا وذاك رفض ومقاومة لا تستسلم ولا تستكين ولا تذعن لاستبداد وطغيان.. إنها المسافة التي أغالب فيها قهري وأقداري، وأمارس فيها وجودي حتى ينتصر على خجل ورهاب أستبد، وظلم أثقل كاهلي وكواهل البسطاء من الناس..
رغم اضطرابي ورهابي وكثير من المشاهد العاصفة التي أعيشها وتكتظ داخلي، إلا أنني كما أظن كنت حريصا على مصداقية ما أقول – حتى وإن شابه بعض الارتباك – وأن ما أقوله من وجع كان نابع من أعماق روحي التي تشتعل بضمير حي لا يهدأ ولا يستكين في مواجهة الظلم أيا كان، وتحت أي مسمى أو لباس أو عنوان..
كنت أعبّر عن أوجاع الناس وأوجاعي بتلقائية صادقة، بعيدا عن الحسابات السياسية التي لا تقول الحقيقة في أغلب الأحيان، أو تلك التي تعمد إلى استلاب الوعي، ومصادر الإرادة، والنيل من الحرية، والعمل على تدجين ما أمكن ضمن القطيع..
عندما أفترى عليّ نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن في عام 2007 في قاعة البرلمان برواية ملفقة وكاذبة بشأن احتجازي في الأمن السياسي ؛ أقسمت في المجلس بشرفي أن هذا الوزير كاذب بعد أن أنتهى من سرد روايته الملفقة.. فطالب بعض النواب في الجلسة سحب كلامي، وتقديم الاعتذار لمعاليه، فيما هدد البعض مطالبا بسحب حصانتي البرلمانية لأنني أسأت لمعالي الوزير..
والحقيقة أنني كنت صادقا جدا، وكان كاذبا جدا، بل ومتعمدا الكذب والافتراء.. رفضتُ الاعتذار، وكنت الجدار القصير لزملائي الوثابين في الانحياز والتزلّف للحكومة ومعالي الوزير.. لقد بلغ يومها نفاق بعضهم حد الخزي والابتذال السمج الذي مر شديدا ومتعمدا وثقيل الوطأة على روحي المحطمة بخذلانهم ونفاقهم وعصبوياتهم الصغيرة..
كنت اغالب المشاعر والأحاسيس المحبطة، وأسحق رهابي المكوم داخلي بمزيد من التحدّي والإرادة على الاستمرار بالمضي فيما أنا عليه من دفاع وانحياز لحقوق الشعب ولحقوقي النيابية المنتهكة، وبإدراك عميق أن هناك متسعا لأن أحوّل ما أعانيه من إعاقة نفسية اسمها “الرهاب” إلى قوة أكبر منها.. والأهم من المهم أن لا أذعن ولا أستسلم لهذه الإعاقة التي أشعر بها وهي تتغلغل إلى أعماق روحي التي تكره الظلم وتقاوم الظالمين أي كانوا وتحت أي شعار أو مقدّس..
***
كنتُ أضيق بمن يتصنعون الكلام أمام الشاشات لمغالطة مواطنيهم، والكذب عليهم، وتزييف وعيهم، وهم خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة يثقلون الشعب بكل ما هو ثقيل.. ينحرون حقوق المواطن، ويصنعون الظلم الكبير، أو يتواطؤون معه، أو يتآمرون مع الأشرار في صناعته وإخراجه على نحو فيه كثير من الخداع وتسويق الوهم وخيانة الضمير..
كانوا يرفعون الدعم عن السلع الضرورية، ويمررون الجُرع من تحت قبة البرلمان بكلمات خادعة كمصطلح “حزم الإصلاحات الاقتصادية” دون أن ينتقصون أو ينالون أو يمسّون الفساد العرمرم، بل ويشرّعون له القوانين، ويتركون له الثغرات الكبار ليمر منها كجلالة ملك مهاب..
كان يستفزني أن يحدث هذا، ويستفزني أكثر من يحترفون ألحان الحجج لتبرير الظلم أو الكيد به كحق يراد به باطل، أو الذين يتواطؤون مع الظالمين بصمت الخيانة والعار.. من تتلاشى خطبهم الفجاج وتنتهي مواقفهم إلى عدم وسراب وأحمال كاذبة.. من يستلمون الرشوات بعد تمرير بعض الصفقات الغلاظ، وبعض القوانين والاتفاقيات المملوءة بالثقوب وأبواب الفساد المريع..
كنتُ ولازلتُ أضيق بمن يفتقدون للمصداقية والضمير أو يقفون على الضد من مصالح الفقراء المكدودين والمُعدمين وقضاياهم العادلة.. أتحدث غالبا بتلقائية لا تتقن ما يسمونه “فن الخطابة والكلام” وما يأتي في جله على حساب الوطن والعدالة، وأحلام الحالمون بمستقبل وطن عظيم أكثر عطاء وسؤددا ورفعة..
***
وعندما وجدتُ البرلمان لا يتسع لما أحمله من قضايا ومظالم وهموم، بل وبعد قناعة أن ليس بمقدور هذا المجلس حتى رفع اليسير منها، وقد ضاق عن التعبير عما أريد التعبير عنه، وتيقنت أن كل مخاض فيه لا ينتهي إلى ولادة، أو حتى إلى موقف واحد بإمكانه أن يقلب الطاولة أو يغيّر الحال أو ينتج تحول متواضع، اتجهت بحماس نحو الكتابة والنشر والعمل الاحتجاجي الميداني..
كتبتُ ونشرتُ عبر الصحف تقارير موازية لتقارير لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس.. كشفت كثير من الانتهاكات التي وجدتها من خلال نشاطي الإعلامي والحقوقي الذي أعتمد فيها على النفس الدؤوبة الباحثة عن العدالة، أو من خلال منظمة التغيير التي تشرفت برئاستها..
كشفتُ أيضا من خلال صحيفة “المستقلة” التي أملكها ما يتنامى إلى مسامعي مما هو غير معلن، وعمّا يجري خلف كوليس المجلس، وما يجري من صفقات ومواقف في الغرف المغلقة، وما يتم تمريره من جور عبر المجلس بحق الناس والوطن، بل وكشفتُ فيها عن موقف وإنحيازات كل نائب، وتصويته ورفضه وامتناعه بشأن ما يصدره المجلس من قرارات في الشؤون العامة والهامة..
***
الظلم كان يشتد، ومظالم الناس كانت تصل إلىّ أو أنا أصل إليها، ثم تعتبي وتكتظ في وعيي ووجداني دون أن أجد من يساعدني، أو يرفع الظلم عن أصحابها.. كان من يدير جلسات المجلس رئيسا أو نائبا يتعامل معي بدونية، ويتجاهلني كثيرا على نحو يستفزني ويستفز وجودي، ويصادر حقي في الحديث، أو يقطعه دون مصوغ من قانون أو مبرر وجيه، بل وأحيانا يفعل هذا بتعالٍ وازدراء، أو ببرود وعدم مبالاة، وبالتالي يمارس الإخضاع لرغبة وإرادة غلبة استبداد وتعسف..
كما كنتُ أتعرض لانتهاكات فظة تطالني وتتكاثر كلّما أمعنتُ بالمطالبة بالإنصاف ومقاومة الظلم وعدم الاستسلام له، ثم يتخلّى عنّي الزملاء بعد وقت لا يطول لأسباب تخصهم، وربما بعضهم وجدوني الجدار القصير ليلقوا عليّ العتب، ويدارون فيه انحيازهم أو تقصيرهم أو خور قواهم، وفي المحصلّة والنتيجة كنتُ لا أصل إلى عدالة أو إنصاف أو حق أبحث عنه بشق النفس وطلوع الروح، ولطالما وجدتُ السلطة ورجالها محصّنين مرارا من خلال أتباعهم في المجلس وممانعتهم من انتزاع أي حق أو إنصاف منهم..
احتجيت واعتصمت وتمردت ونجحت في تجاوز كثير من خجلي ورهابي.. اكتظت حياتي بالمحاولات دون يأس أو سقوط.. ازدحمتُ بالمواجهات والضجيج والتمرد والصخب.. وبقي الأهم هو أنني لا أستسلم ولا أستكين ولا أذعن لظلم أو ظالم..
كثير هي المواقف الاحتجاجية التي قمتُ بها في البرلمان وسحقتُ فيها كثير من خجلي ورهابي.. بدأتُ من الاعتصام إلى الإضراب عن الطعام لأكثر من مرة ومناسبة، إلى الوقوف على الطاولة، إلى الجلوس وإدارة ظهري لوجه الرئاسة، إلى لف السلاسل والأقفال على عنقي وصدري حتى كدتُ أختنق، وهم يحاولون منعي من الدخول إلى قاعة المجلس والاحتجاج فيها، وكذا خلس قميصي والمكوث دون قميص، بل وصل الحال حد محاولة اغلاق البرلمان مع الجرحى، والشروع في التعرّي أكثر من مرة في قاعة هذا المجلس المتعرّي جداً..
***
عندما يمارس الظلم عليكم طغيانه وفجوره ثوروا وأتمردوا ولا تستسلموا، ولا بأس أن انتزعتم فسحة من اكتظاظ وضيق، أو استراحة محارب تستعيدون فيها أنفَاسكم وقواكم حتى تسحقون التعب والوهن لتبدؤون الكرّة من جديد بإرادة تفلُّ الحديد..
عندما يداهمكم إحباط ثقيل، أو تنزل على رؤوسكم مصيبة أو نكسة في معركة مختلة بين أعزل ومن يملك ألف قدر، قولوا للأقدار كلّها إن الحرب لم تنتهِ، وإن خسرنا معركة، فلنا في القادمات صولات وجولات، ولنا شرف كبير، وفي الانتظار ألف مأثرة وانتصار، وفي مسك الختام ينتظرنا انتصار كبير..
إن داهمتكم هزيمة قولوا ما هُزم من لا زال يقاوم.. لا بأس من استراحة تستعيدوا فيها قواكم في مدى لا يطول، لتعيدوا الصاع صاعين، وتردوا الكرّة ألف كرّة في وجه من قهركم بظلم وطغيان.. فالإرادة القوية لا يهزمها ألف قدر ونمرود..
قلت ولازلتُ أقول لمن طال وأوغل ظلمهم، وظنوا إن عهدهم سيمتد ألف عام، عمر صنعاء 12200 سنة، وعمر اليمن ضارب في عمق تاريخ الحضارة والوجود، وعهدكم إن طال في هذا الامتداد العميق لن يزيد عن برهة زمن.. من زخم نضال لا يستكين نصنع أقدارنا في وجه أقدار ظلم وقهر يصرون على فرضها علينا، وإخضاعنا لإستبداد وطغيان.. مارسوا وجودكم ولا تستسلموا لأقدار عبثة، ولا تذعنوا لواقع ظالم مهما كان ثقله وسواده وكلفته..
***
يتبع ..