(6) حوريات “الجنّة”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
لم يسبق لي أن دخلت مكانا كهذا.. إنه السيرك.. ألق وفخامة.. تصميم هندسي معماري باهر، ولمسات ديكوريه وأشياء أخرى تشعرك كلها وأنت في غمرة المشاهدة أنك في مركز الكون الفخيم..
أول مرة أشاهد عروضا تشبه الخيال.. ما كان مستحيلا صار واقعا تحت بصري، وما كان بعيدا صار في متناول اليد، واقصاه على مرمى حجر.. إنها المرة الأولى التي أرى فيها حوريات الجنة من منطقة قريبة، غير مكتوب عليها ممنوع الاقتراب.. الدهشة استغرقني من أول وهلة، وتملكتني ساعتين دون انقطاع.. كل التفاصيل هنا تأسرك حتى آخر لحظة.. هنا الله الذي يناديك بدلا من أن تناديه.. هنا الله الذي يحب الجمال، وهنا للبيت الشعري مقامه وحضوره الطاغي:”وأنت جميل تحب الجمال * * * فكيف عبادك لا يعشقون”..
رأيت حوريات الجنة بأم عينيي، كما رأى ذلك الدرويش ربه.. الله في منتهى الجمال.. في حضرته يجتمع عشاقه وأحبابه.. جلال الدين الرومي ومملكة الحب.. صاحب الكرامات شمس التبرزي.. إمام الصوفية أحمد ابن علوان.. سلطان العاشقين ابن الفارض.. رائد التصوف الحسين بن منصور الحلاج.. الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، والصالحون والمصلحون الباحثون عن الله في الحب والحياة والجمال..
يزدحم الجمال في هذا المكان، وتغدو أنت بعض منه.. خلتُ نفسي أنني في قلب قبة هذا الكون أم المُعجزات.. بصري يجول في أرجاء المكان.. أحسست أن الكون يحيط بي من كل اتجاه.. يا الله ما هذا الجمال!! الدهشة تقيم هنا، والجمال الآسر يدعوك إلى استحضار رب العالمين وغفرانه..
الله هنا يتبدى لي أجمل مما كنت أظن.. يحملني العجب على جناحيه، ويلف بي في كل اتجاه.. أتماهى مع ما أراه من مَشاهد، ولم أعد أميّز بين المشارق والمغارب.. كل نقطة في المكان صار بإمكانها أن تكون شرقا وغربا في آن.. البوصلة هنا معطوبة ولا تعمل.. بوصلة الجمال وحدها هي التي تخطف وعي المُشاهد، وتعمل بكل كفاءة وإتقان..
قبة تجمع أشتات الاتجاهات كعدسة كونية.. وأنا أمعن النظر في حورية السماء التي تطير في المكان.. أحاول أن استجمع صوابي فيطير معها، وأبلغ في السكر حد لم أعد أميز بين أعلى المكان وأسفله.. عيوني تتعلق بخاصرة الفاتنة الأخرى، والحلقات تدور عليها حتى صارت أعظم من حلقات كوكب زحل، وصرت أنا وهيامي إحدى حلقاتها، أحج وأطوف على خصرها.. حلم وعلم حتى أدوخ..
كل شيء هنا ساحر ومنسق وأخّاذ.. الموسيقى والحركة والأضواء والمكياج، والحكايات المرسومة بالبهلوان.. المؤثرات الصوتية تكتمل بأخواتها.. كل شيء فيه ألق وسحر وجمال وخفة.. دقة واتقان ودهشة لا تنقطع.. عروض سيرك متنوعة، وأخرى راقصة ومثيرة.. وثالثة بهلوانية تلعب بعشرين بيضة وحجر..
فتية وفتيات.. رجال ونساء بلغوا درجة الاحتراف.. كل يقدم ما تم لديه وما أبدع فيه وما بلغ إليه.. كأن الخالق صنعهم من مطاط أكثر ليونة لا من تراب.. كل الجسد هنا يتشكل على النحو الذي يريد، حتى يبهرك ويخطف منك استقلاليتك التي دوما ما تحرص على كينونتها داخلك.. يتداخل الجسد مع بعضه كعجينة من اللبان، ويزوغ نظرك حد التيه عندما تفقد التمييز بين شعر الرأس وقاع القدم..
فتيات وفتية أجسامهم تعرض أمامك من المشاهد ما يُغرقك في ذهولك.. أجسام هنا تعمل كالمغزل، وأخرى تتشكل كالعجينة، وثالثة تطوى كالحبل.. تتشكل وتُعقد على ما يريد أصحابها.. في كل عرض تشهد أمامك معجزة، يعقبها عاصفة من التصفيق الحار والفرح الكبير والطيران المحلّق.. لم تكن أيدينا وحدها هي التي تصفق، بل كانت تصفق معها قلوبنا وأرواحنا التي تنتشر في أرجاء كون هذا المكان..
فتية وفتيات بعمر الزهور، وعروض آسرة تحوّل بهو قلبك إلى صالة عرض جميل.. خفة لا يجاريها البصر، ومرونة تتشكل دون مانع.. وبقع الضوء المتحركة تتحرك مع بطل العرض هنا وهناك.. محترفون حد العبقرية.. كل يتحفك بعرضه الخاص.. طيران الحوريات إلى شاهق صالة العرض، وعودتهن محوطات بالسلامة.. طيران بدون أجنحة.. قفزات “الجمباز”، وترويض الحيوانات، والسير على الحبل، وتأدية العروض عليه.. هنا حاضر كل المستحيل..
يدخل المروضون والمروضات إلى صالة العرض بخفة النسيم وبغتة الدهشة، وتدخل الوحوش إلى الصالة طيعة مروضة، وكأن قدر قد أستأنسها، وبلغ بها حد الأنسنة.. كل فئة منها تدخل بحسب فقرات العرض المحددة لها..
عرض للأسود وآخر للنمور وثالث للفيلة، وغيرها كثير.. كل يؤدي العرض بحسب البرنامج والفقرة المزمّنة بدقة.. تتوالى الدهشة والعجب، وتتوالى معها المتابعة.. هنا لا تفلت منك ثانية، ولا تندم على اضاعتها سُدى.. لا ندم هنا ولا عض للأصابع.. الندم فقط عندما تتذكر عمرك المهدور، وكثير من أيامك التي مضت سدا دون عودة أو فائدة..
***
يتبع..