مذكرات

طيران بلا اجنحة .. تأملات تتنهد أسا وأسئلة

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

ملاحظة: في هذا الصدد أتحدّث عمّا هو تاريخي لا عمّا نعيشه الأن، حتى وإن تقمصتُ إحساس اللحظة.

تاريخياً.. باسم الله والذود عنه، ربما تُزهق روحك، ولا تجد ما تدافع به عن نفسك عند شيخ علم مزعوم، يتعمم جهله، ولا يريد أن يسمع إلا صوته الذابح وحده، ويفرض كلالة نظره، وقناعته النخرة على حقك في التأمل والتفكير فيطالك منه سيفاً ويداً وغلظة.

ربما تجد جماعة دينية تظن ما تعتقد هو الحق الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”، وما يصدر منها حقائق ويقين لا مدخل فيه لشك أو ريب، ولا تقبل منك فسحة رأي حتى بمساحة أضيق من إبط، فيما فتاويها التي لا عقل لها ولا رأس تطلق أعنتها لتستبيح دمك؛ وتصيب الضحية بمقتل أو نكبة كان شعب أو أمة أو إنسان.

وتجد سلطة مأسورة في ضيقها الأضيق من مغبن أصبع، تستجر تالفها وتلوك تخلفها، متكئة على ثقافة ماض أشد ظلاما ورجعية.. سلطة تستسهل قتلك أو دونه لأنك صاحب رأي أو اجتهاد أو فكرة.. هذا الاستسهال ربما يطال وجودك أو سلامة روحك وجسدك لأنك وضعت سؤالاً على الطاولة يمكنه أن يؤدي إلى عصف ذهني يعيد النظر فيما هو قائم ومعتاد، أو يثير الأسئلة الوجودية التي تعيد صياغة الوعي بجديد في مجتمعك المحافظ الذي تعيش فيه.

هناك اسئلةٌ كثيرةٌ منطقيةٌ أو معرفيةٌ، الإعلان عنها أو البحث عن إجابة لها في وسط صدئٍ ومتخلّف، ربما يزُج بك في صدام محتدم مع واقعك القاسي والثقيل، أو تدفع بك إلى المعتقلِ. وربما تُودي بك إلى حتفك الأكيد، وتُصيُّرك قرباناً، وجسرَ عبورٍ لجاهل مشبع بالتعصب والتزمت والرعونة، يبحث عن الجنةِ والغفرانِ بإزهاق روحك الشفيفة!

هذا وذاك بعض من واقع تاريخي مثقل بكهنوته، وحالاً مملوءً بالتحريم والتجريم يثقل كواهلنا، لمجرد أنك ترفض المرور بسلام، بل تأثر الإمعان والاستغراق في التأمل، وتطلق فيما تراه قولا، أو تعلن فكره لا تناسب مجتمع مغيب وعيه، أو سلطة تمكر بالدين، أو جماعة تكهينت، أو احتكرت الدين وتفسير نصوصه، لتصرفه إلى مسالكها لخدمة مصالحها، أو شيخ جاهل يدعي أنه الحق كله.

***

الفلكي والفيلسوف والشاعر الفارسي عمر الخيام صاحب الرباعيات، والمتوفى سنة 1124م كانت حيرته وشكه سبباً في أن يتم اتهامه بالزندقة والإلحاد؛ حالما قال:
“لقد أُكرهت على نزول ساحة الحياة
فما زادتني زيارتها إلا حَيْرة …
وها أنا أنذا أهجرها مكرهاً
فليتني أعلم القصد من رحيلي، ومن مقدمي وإقامتي!!”

ويبدو أن الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة (الطلاسم) قد استل فكرة مطلع قصيدته من تلك الرباعية.. لقد أثار هذا الشاعر تساؤلات وجودية كثيرة من خلال قصيدته التي بلغ طولها 340 بيتاً تقريباً أستهلّها بـ :
“جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ
كَيفَ جِئتُ؟ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي؟
لَستُ أَدري”

ثم تتتابع الأسئلة بتدفق وتتناسل وتكاثر، وتغلق كل مقطوعة منها بجواب ـ لستُ أدري ـ غير أن هذا الإغلاق كان ممتلئاً بالحيرة التي تثير كثيراً من الجاذبية المعرفية، وتستحث مزيداً من الفضول والمحاولة للاستكشاف وسبر الأغوار، وتلقي مزيداً من الأسئلة الولاّدة للمعرفة.. الأسئلة الفاتحة لثقوب الشك التي تتسع، ومطارقها التي تطرق أبواب الوعي، وتظل تلح عليه لتُفتح الأبواب والمغالق.

إيليا أبو ماضي الذي عنون قصيدته بـ “الطلاسم” تحكي وتسأل الغموض الداعي للكشف، والمبهم الذي يستدعي الإزاحة، واللغز الباحث عن الحل.. يسأل البحر، والدير، والمقابر.. ويثير الأسئلة الفلسفية القلقة التي ربما تحاول إعادة الوعي المستلب، وإزاحة بعض اليقينيات الزائفة.

“لست أدري” كان يلقيها في نهاية المقطع كمن يسأل النجاة، بعد تمرير السؤال الجريء الذي يريد الإجابة عليه.. يبدو السؤال كتلك الحجر التي يرميها إلى قاع البركة الهادئة ليرى ماذا يوجد في قاعها، ثم يحاول الكشف والاستبصار وإثارة الاسئلة المعرفية حولها.

يوغل إيليا أبو ماضي في الأسئلة، فيسألُ نفسه أسئلة فلسفية سبق أن أثارها فلاسفة ومتكلمون قبل عهود وقرون مضت، هل يكون الإنسان في هذا الوجود مخيراً أم مسيّرا؟ غير أنه قدم هذه الإشكالية في قالب شعري لافت:
« هل أنا حر طليقٌ أم أسيرٌ في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن…
لستُ أدري»

وفي مقطع آخر من القصيدة يقول:
أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك
أَنتَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ لا تَملِكُ أَمرَك
أَشبَهَت حالُكَ حالي وَحَكى عُذرِيَ عُذرَك
فَمَتى أَنجو مِنَ الأَسر وَتَنجو؟
لَستُ أَدري

وفي مقطع ثالث من نفس القصيدة يقول:
“فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصدافٌ وَرَملُ
إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ
إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ
فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى؟
لَستُ أَدري” كيف جئنا؟! سؤال يثير كثيراً من الردود والجدل في وسط التفكير فيه عالي المخاطر والكلفة التي قد تنتزع منك حياتك، أو تنال كثيراً من حريتك.. عليك بالمجازفة وركب صهوة المخاطر إن كنت تعيش في وسط حالِك وقاتم، أو مجتمع متشدد ومتعصب.. سؤالٌ يمكنه أنْ يُكلِّفك كل حياتك، وربما أكثر منها إن أطلقت لعقلك العنان بحثاً عن جوابٍ يحلِّق بعيداً عمّا أعتاده أو درج عليه المجتمع الذي تعيش فيه.

***

و “الشيء بالشيء يذكر”.. من غير ليه” أغنية عامية مصرية، كان يفترض أن يغنيها الفنان عبدالحليم حافظ في عيد الربيع عام 1977، ولكن عبدالحليم رحل قبل الربيع، فيما أدرك الموت كاتب القصيدة بعد ثلاث سنوات، فغنّاها الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1989م بعد اعتزال وانقطاع.

“من غير ليه” أو ما تسمى رائعة الشاعر مرسي جميل عزيز، وقيل عنها “القصيدة الوحيدة الأخطر في مشواره الفني الطويل”، والتي ذهبت به إلي المحكمة بعد وفاته بحوالي عشر سنين، فيما تم استدعاء الفنان محمد عبدالوهاب للمحاكمة بسببها، بعد أن ذهب أحد المتنطعين إلى لجنة الفتوى بالأزهر طالبا الرأي الشرعي فيها، والتي تقول في مطلعها:
جايين الدنيا ما نعرف ليه
ولا رايحين فين ولا عايزين ايه
مشاوير مرسومه لخطاوينا
نمشيها في غربة ليالينا
يوم تفرحنا ويوم تجرحنا
واحنا ولا احنا عارفين ليـه
وزي ما جينا جينا
ومش بايدينا جينا

وقد احتشد كثير من المفكرين والمتنورين والمحامين المصريين للانتصار لها وللدفاع عنها وعن أصحابها لينتهي الأمر بانتصار الشعر والفن على أرباب الظلام وأسياد الجهل، وانتزعوا البراءة الكاملة لها ولكاتبها ومغنيها.

***

ولا متسع هنا لبسط المقام لمن أُعدم أو أُحرق أو قُتل أو سُجن بحكم ظالم أو بغير حكم، ومن أُحرقت كتبه ومؤلفاته، أو أتهم بالكفر والإلحاد والزندقة، لمجرد أنه حاول اقتحام الممنوع، وإطلاق العنان لعقله وتفكيره وتأملاته، أو تنوير مجتمعه. وهؤلاء ما أكثرهم وما أكثر تضحياتهم.. عالم ينو بأثقاله ألم وحسرة.

***

Related Articles

Back to top button