مذكرات

طيران بلا اجنحة .. اهداء واستهلال ومقدمة

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

اهداء واستهلال ومقدمة لكتابي قيد المراجعة:  “طيران بلا اجنحة” .. “مُحدَّث”..

الإهداء:

أهدي هذا الكتاب إلى المظلومين والبؤساء والتُعساء، والمنحوسين الذين خانتهم أقدارهم..

إلى البسطاء المتعبين المكدودين المثقلين بهموم وتفاصيل الحياة اليومية..

إلى التواقين للحرية والمنتمين للمستقبل والباحثين عنه..

المستقبل الذي لطالما حلمنا به، وسعينا للوصول إليه ولم نصل.

هذا الكتاب في وجه منه تضامن صادق مع الحالمين الشغوفين بالمستقبل، والذين يواجهون الخيبة بمزيد من الإصرار على الأمل والعمل واليقين..

وتضامن مع من يمكن تسميتهم بـ “ضحايا وجودهم” وما أكثرهم وتعددهم..

وتضامن مع الباحثين عن عالم أفضل من هذا العالم البشع في معظمه.

كتاب يطلق صرخة احتجاج في مواجهة هذا الواقع الظالم والمرير، والوجه البشع والغشوم المفروض على هذه الحياة، والحياة التي نبحث عنها.

***

استهلال وبداية:

“ابن الدباغ” محاولة لتناول بعضاً من تفاصيل حياتي المتواضعة، والتي من خلالها حاولتُ أن تكون إطلالة على عهد عشناه بعسره ويسره.. بآماله وخيباته.. بفسحه وضيقه.. بتجاربه المتنوعة ومساراته المتعرجة، محاولين العبور إلى مستقبل ننشده، في واقع متخلّف وثقيل ومستبد.. يئد العقل، ويقمع السؤال، ويتوق إلى الماضي ويعشق دياجيه.

سبحنا عكس التيار.. أبحرنا في وجه الريح.. عشنا الصمود والتحدّي، ولم نيأس ولم نكف عن الحلم.. حاولنا إشعال النور في محيط يعج بالظلام الكثيف.. أشعلنا أعمارنا في محاولة لإزاحة بعض من هذا الظلام الذي يلبّد الحياة بسواده الحالك والمُحتشد.

بذلنا كثيراً من الجهد لزحزحة واقع وجدناه راسخاً ومُمانعاً، صُعب علينا اختراقه على النحو الذي ننشده، بل كان هو علينا أكبر من قدر.. أصبنا هنا، وأخطأنا هناك، فليتعظ من يأتي بعدنا، يستفيد مما أصبنا، ويتعلم مما وقعنا فيه من أخطاء وخطايا، بعضها ساهم فيها عاثر الحظ ومنقلب القدر.

في معتركنا حاولنا الثبات في وجه ارتدادات وانكسارات الزمن.. تمرّدنا على رتابة المألوف وما يثقل الحياة من سأم وملل.. انتمينا إلى المستقبل وعشقناه بولع جموح.. رفضنا الظلم وتمردنا عليه.. قاومنا القهر ورفضنا الإذعان له.

تمردنا وقاومنا كل السلطات التي أرادت تدجيننا، وإخضاعنا في قطعانها، وصيّرنا بعض المستحيل ممكناً بعد اعتراك واستماتة، وإن أناخ علينا واقع كنّا عليه مرغمين، وقدر كان أكبر منّا فرض علينا شروطه ومشيئته، وحال دون اختيارنا وما نريد، إلا أننا لم نستسلم، ولم يستسلم حلمنا لواقع مستبد، ولم نكف عن محاولة البحث عن المستقبل الذي نريد، رغم أثقال اليأس، و وطأة المحبطات الثقال.

وفي المقام نفسه ندعو من بعدنا أن يكونوا أفضل منّا في صناعة ومراكمة الوعي، وإصراراً على المحاولة والنجاح، وأكثر قدرة على تغيير الواقع مهما كانت وطأته، وتحويل ما أمكن من المستحيل إلى ممكن، وحثهم على أن يكونوا أكثر منّا استحقاقاً للحياة والكرامة والإنسانية، والمستقبل الذي فشلنا في تحقيقه أو الوصول إليه.

ونقول للبسطاء المكدودين ومن يسحقهم القهر لا تستسلموا.. تمرّدوا، وقاوموا وثوروا ما استطعتم على واقعكم الثقيل، وحاولوا كسر القيود التي تكبّل أقدامكم، والسلطات التي تكتم بوحكم، وتغل ألسنتكم.. قاوموا ما استطعتم صنوف الإذلال والأغلال والإرغام الذي يُمارس عليكم، بل أكثر منه إن تأتّى أو قدرتم عليه.

قاوموا من يريدكم أن تكونوا قطعاناً داجنة، أو بشراً منقادين، ومستكينين، ومستلبين الوعي والإرادة والفعل.. أمواتاً مُستلبين الإنسانية والضمير.. مقموعين وممنوعين من ممارسة حق الشك والسؤال والمعرفة.. ابحثوا عن الحرية والمستقبل، والحياة الكريمة التي تليق بكم كأحرار جديرين بالحياة والحب والعدالة والأمل.

قولوا لمن اعتاش يوماً على دمكم، وسرق حقوقكم، وصادر أحلامكم: التاريخ نحن لا أنتم.. في التاريخ أنتم مجرد طغاة وقتلة ونهّابة ولصوص مرّوا من هنا بلا مجد ولا كرامة..!! الزيف لا يثبت حقاً ولا يضفي مشروعية، والوهم لا يؤسس لوجود عظيم.. المجد تصنعه عقول عظيمة، وأفذاذ نهض المجد على أكتافهم وأزنادهم وكدحهم وعرق الجبين.

قولوا لهم: أنتم طغاة وفاسدين تستقرون في نهاية المطاف في مزابل التاريخ المنتنة، وقيعانها السحيقة، وربما ملعونين الذكر في كل حين.. “نيرون” ما كان يوم بطلاً ولا عظيم شأن، ولا صاحب مجد ومأثرة، بل كان رب خراب كبير. أما نحن فنستحق الحياة والمجد والكرامة.. نحن من نبني وأنتم تهدمون.. أنتم الظلم الكبير، وخراب العمران، والموت الذي يسلب الحياة بهجتها وسعادتها، ويثقلها ببشاعته وسواده وقتامته، ويجعلها مؤلمة وكئيبة ومقرفة.

إلى كل الأحرار.. ارفعوا رؤوسكم بشموخ في وجه النرجسيين، وحملة مباخرهم، ووعاظ السلاطين الذين يلوون عنق الحقيقة أو يطمروها في مدافنهم، ويدجنون العقل، ويسممون الوعي، ويزيفون التاريخ.. تمردوا وقاوموا ما استطعتم الذين يسفكون الدم، ويعممون الموت، ويعيثون في الأرض فساداً ودموية.

***

ما كتبته حاولتُ بحدود ما استطعتُ أن أخرج عمّا هو تقليدي ومعتاد في كتابة السِّير والروايات ونحوها من فنون الكتابة.. قد يبدو ما كتبته لا ينطبق عليه قواعد التصنيف المعتادة، أو أجد نفسي أمازج بين هذا وذاك، وربما يبدو الأمر فوضويا من صاحب مزاج خاصاً بصاحبه.

أكتب أحياناً الحدث بلغة تميل إلى الرواية، وآثر السرد والشاعرية، وأحياناً أجد نفسي أخوض في فلسفة الحدث وأسبر أعماقه.. أطل من النص إلى خارجه في محاولة استكناه أبعاده واستكشاف آماده.. أحاول إشباعه بما أريد، وأريد أن أكون أنا الحاضر كما هو أنا في الواقع، ربما زاهداً ومتمرداً وثائراً، وربما فوضوياً ومتناقضاً وصاحب مزاج، وفي كل الأحوال متجاوزاً في الغالب لما هو معتاد، وما جرت عليه العادة، أو هكذا أظن.

أجد نفسي في بعض المواضع أمازج بين الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، وغيره من فنون العلم والمعرفة.. أحاول أحياناً إثراء الواقعة بما أمكن من هذا وذاك، وتدعيمها بما أجده في متناول يدي من أدوات وخلاصات، ومعرفة متواضعة، لتكون للقارئ أكثر جذباً وشغفاً، وسعة وفائدة، أو هذا ما حاولت فعله في أكثر من موضع وموطن في هذا الكتاب.. ويظل تقدير اخفاقي من صوابي متروكاً لمن يبحث ويهتم.

***

وفي الوقائع أيضاً أجد نفسي أبوح ببعضها رغم ما يبدو فيها من إساءة لشخصي من وجهة نظر المجتمع، أو النيل من تنشئتي ومكانتي وحياتي الاجتماعية بحسب التنميط المعتاد والمتعارف عليه، والمعايير السائدة والمعتمدة اجتماعياً، والمصادمة في أكثر من وجه للعدالة والإنسانية، وما اختياري لاسم هذا الكتاب إلا تحدٍ واحتجاج على هذا التنميط السائد المشبع بالظلم، ومقارعة له لصالح ما هو إنساني وعادل وحر، وانحياز للمستقبل الذي أبحث عنه.

أجد نفسي أذهب أحياناً إلى النقد اللاذع للواقع المتسم بالرجعية والتخلُّف، محاولاً الثورة أو التمرُّد أو التحريض عليه، وعلى المفاهيم التي تسوده؛ وهو ما قد يبدو أو يؤدّي إلى إثارة استفزاز نُخب المجتمع، لاسيما المتزمتة منها، كونها تجرح في بعض تفاصيلها الوعي السائد الذي يمارس حضوره في الواقع بغلاظة وتوحش وطغيان، أو تخدش الحياء الكذوب، وتنيط اللثام عن العيب المتكئ على الزيف والتصنُّع بعيداً عن الحقائق بالغة المرارة.

وبعض الوقائع أجد نفسي مرغماً على تحاشي البوح بها، مضطراً لأكتم سراً هنا أو أتجاوز ذكر سبب أو واقعة هناك، كونها عصيّة أو ممنوعة من البوح، في مجتمع لازال جلّه إن لم يكن كله يقدّس جهله ويسيُّجه بالموت؛ فأهيم باحثاً عن فضاء واسع سقفه السماء؛ فلا أجده، ولا أجد في الأمر من حيلة أو وسيلة أو سعة.

ألوذ أحياناً بالمدارة والتمويه، أو المقاربة والمناوشة، واستخدم الرمزية والإشارة والاستعارة لضرورة تحملني عليها، وتعويم التفاصيل ليوم آتي إليه أقل طغياناً وقمعاً، أو أجد فيه حرية ومتسع.

هذا اليوم قد يأتي وقد لا يأتي على عهدي، ولكن الأكيد سيؤسس له آخرون أكثر شجاعة وجرأة وجنوناً منّا، ويخلقوا بإرادتهم الفذة فضاءات فسيحة و وسيعة للبوح والصدق وللحرية التي ما زالت مقموعة أو غير متأتية في هذا الواقع الثقيل، وهذا العهد الظالم والغشوم والمستبد.

ربما تخلل بعض ما كتبته إذعاناً للقانون الذي يسود، وهو قانون لازال في جزء منه يعيش ظلامه ودياجيه، متحاشي بحدود ما غضب المجتمع، أو ما يمكن اعتباره تعدّياً صارخاً على أهم خصوصياته، وعالمه الخفي الذي يأثر السكوت عنه بعيداً عن البوح والمكاشفة، والحقيقة المُرّة، أو حتى لا يبدو الأمر فيما أكتب مغالٍ وشاطحٍ، أو مستفزاً وساحقاً لصميم عادات وتقاليد المجتمع، وفكره الديني السائد، وهي مهمة جسيمة أظنّها تحتاج إلى تراكم مازال في معظمه بعيد المنال.

***

ربما أجد حضوري كثيفاً فيما أكتب بتلقائيتي وتمردي واحتجاجي، بل وفوضويتي أيضاً، وأستحضر معي اللحظة بكل تأججاها وملابساتها.. ربما ما كتبته لا يخلو من عشوائية، حيث أجد نفسي في بعض المواضع أقدّم ما تأخر، أو تأخير ما تقدم لأهمية ما رأيتها، أو لسبب أقل أهمية رجحته بأفضلية.

أطنب هنا وأوجز هناك، وأكرر بعض ما قلته في واقعة ما، بصيغة مماثلة بمناسبة أخرى فيهما ما هو مشترك، أو حافز ما يجمعهما.

ربما تختل تراتبية ما أرويه فأثب من هذا إلى ذاك بذاكرة تلقائية، أو لوجود سبب ما يجمعهما في الحدثين، أو أربط بين حدث وآخر بمناسبة، أو بملمح ما، أو ضغط الواقع ومحاولة تنفيس اللحظة حال الكتابة عمّا اريد قوله، أو أعبر إليه في تلك اللحظة الضاغطة.

ما كتبته لم يتم دفعة واحدة أو بتتابع مستمر بأيام متتالية، بل كان في الغالب حلقات يفصل بين بعضها قليلاً أو كثيراً من الوقت، وربما في بعضها تعدّى الشهور والسنوات، تخللها كثيراً من الحذف والإضافة والتعديل، وهذا يفسّر بعض التكرار المنفلت، مع محاولة تحاشي ما قدرت عليه أثناء المراجعة.

وفي باب أخر وجدتُ نفسي أعيد صياغة أسئلة الطفولة بكلمات أكثر وضوحاً وبساطة، أو بقالب فلسفي ومعرفي على نحو ما، غير أنني حرصت أن لا أخفي من وهج ولمعان تلك الأسئلة التي جاءت جريئة من براءة طفولية، ويتم قمعها وإخضاعها لواقع ووعي يسود.

***

وبخصوص الوقائع وما أكثرها فقد حاولت أن أتذكر ما استطعتُ تذكره، وفاتت بعض الوقائع تاركاً إياها للذاكرة التلقائية، أو لعلني أذكرُها في مناسبات أخرى قادمة في موضع من الجزء الذي بعده أو يليه، دون أن أنسى في المقابل بين الحين والآخر أن أمرق بمناسبات أخرى، وبحضور أشد إلى الحاضر الراهن أو القريب منه، حتى لا أبقي كسيحاً، أو أسيراً في مدافن الماضي ودهاليزه.

أنتقل إلى الحاضر أو ما قرب منه بحسب الدواعي ورابط الصلة، وأهمية الاستحضار فيما أكون بصدده. وفي بعض الوقائع العصيّة على استذكار تفاصيلها، حاولتُ أبحث عن الممكن الذي يجد مقاربة لما حدث فعلا  في الواقع.

هذا الجزء ما هو إلا بداية لمشروع ربّما يكبر ويتسع في المستقبل بحسب دواعي مقتضى الحاجة والحال، ودواعي الأهمية، وما يتسع لي من الوقت والعمر، أو بالأحرى ما بقي منه.

حاولت نشر جل ما كتبته في وسائل التواصل الاجتماعي قبل نشره في كتاب، ربما لأصل إلى المقاربة التي أبحث عنها، وإعادة تقييم ومراجعة ما تم نشره مرتين وثلاث، على أمل أن يأتي هذا الكتاب بأخطاء أقل، ربما ليتم تصحيحها أو جلّها، وإغناؤها بالمزيد من الدراسة والمراجعة والتحليل في هذه الطبعة أو حتى في طبعة تليها أو لاحقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى