مذكرات

(6) تعلُّم وتغيير واكتساب صفات.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. بعض من تفاصيل حياتي ..

(6)

تعلُّم وتغيير واكتساب صفات

أحمد سيف حاشد

كانت الحركة النظامية في العام الأول مكثفة وأبذل فيها جهد ومشقة، ولاسيما في فترة الإستجداد، حيث تم تخصيص وقتا أطول لها في جدول الحصص، يزيد عما تم تخصيصه لأهم المساقات الدراسية مثل مساق التكتيك أو التدريب الناري..

 

خلال عامها الأول، لم أسترح لها، ولم تطب نفسي حيالها.. وأكثر منه لم أجد كيمياء مشتركة أو انسجام بيني وبين مدربيها “البركاني” و”المقط” رغم أن الأخير كان لا يخلوا من ليونة ولطف عند المقارنة مع البركاني..

 

كنت أقع في أدائي للحركة النظامية بأخطاء طفيفة تعرضني لإحراجات كبيرة أمام زملائي.. وفي أعماقي أجد نفسي مستنكرا لها، مستصغر أهميتها، ساخرا منها، أقارنها بما يبخسها.. محدثا نفسي بشأنها:

  • يفترض أن تكثف دراسة المواد التي تجعل منّا مقاتلين صناديد، وقادة أفذاذ، وليس بما يحيلنا إلى كائنات استعراضية لا يستفاد منها شيء في ميادين الحرب والقتال.. إنها لا تروقني، بل أمقتها وتستحق كل لعناتي عليها..

هكذا كنت أحدّث نفسي وأستثير عداوتي حيالها.. ولكن بعد عام تقريبا تغيّر الحال وصارت تثير فيني طربا ودمدمة شجون.. فبمجرد أن أسمع صوت الموسيقى العسكرية ، أتناغم معها، وأجد نفسي منسابا كالماء إليها دون شعور.. ضربات الطبل كانت تحرّك أعماقي، وتحفّز أقدامي؛ فأجدها تضرب الأرض بقوة على إيقاعه..

***

 

تعلمتُ في الكلية العسكرية القيادة حيث كان على الطالب قيادة فصيلته لمدة 24 ساعة كلما أتى عليه الدور مرة واحدة في الواحد والعشرين يوم.. لقد بدا لي هذا الدور في البداية صعبا، غير أنني ما أن كسرت هذا التهيّب حتى تحول الأمر إلى الاعتياد، بل أستثار في أعماقي تحدّي ذلك الرجل الخجول الذي بات يستعجل دوره في قيادة فصيلته..

 

في الواحد والعشرين يوم، كان معهودا لي يوما واحدا فيها قيادة الفصيلة التي أنتمي إليها وهي الفصيلة الأولى مشاة، وكانت في دفعتي ثلاث فصائل مشاة، والباقيات دفاع جوي ومدفعية ودبابات وهندسة وسياسيين ولغة روسية..

 

تحسّن أدائي وتجاوزتُ خجلي المعهود.. تجاوزت ما كنت أعاني منه أيضا في ضبط الحركة النظامية، وبلادة تقدير ما يفعله الإيقاع.. صار طولي الفارع مع مدت ساقي، وضربات الطبل في الحركة النظامية، تتوحد في مقام يعلو زهوا حتى تبلغ نشوتي ذروتها في القمة..

 

صرت أشعر وكأن هناك عملاقا نائما في أعماقي.. ما أن يسمع إيقاع الموسيقى ودقات الطبل، حتى ينهض كالمارد.. يرقص بنشوة فارس، وولعة مجنون عاشق.. ترقص أقدامي ومعها نياط وأوتار القلب.. كل شيء نائم يستيقظ، مع أول دقة طبل.. عزف ونظام.. يوم يتجدد، وعشق يتأجج، وطرب يشجي ما في النفس.. كل ذلك صار بعض من روحي.. روحي راقصة لا تتعب.. راسي مملوء بالنشوة، وأقدامي تنجذب بلهفة شوق جارف نحو دمدمة الطبل، تسكر على إيقاعه، وكل يعزف ما راق للنفس وأسكر..

***

 

كنت خجولا إلى تلك الدرجة التي يخجل فيها المرء من صوته.. وبعد مضي وقت في التدريب، تراجع خجلي وقلل رفسه.. صار صوتي أكبر من صوت الطبل.. تحررت من بعض قيودي، ومن أسري الكابح لنفسي.. صرت اصرخ بأعلى صوتي.. صار صوتي قويا كزمجرة الرعد، في وجه خجلي الذي أستعمرني حد الاستعباد.. تحررت كثيرا من وطأة خجلي الذي يمنع صوتي، أو يجعله مغلولا حد الصمت.. فاعتدل الأمر عمّا فات، وشعرت أن العسكرة صنعت فيني الفارق..

 

كنت أصرخ بالصوت (أخي).. كصوت المدفع أطلقها في أي بلاغ أو تتميم.. صرخة تحمل في معناها رفضا للدونية.. ترفع مقامي العالي إلى أكبر قائد.. صرخة غير صرخة حاضر يا (فندم) في الشطر الآخر.. خُلقنا أحرارا.. حاضر يا “سيدي” أمقتها وأتأفف منها.. أنا لا أقبل ذل، أو فقدان الذات.. لا أقبل أن أتحول إلى كائن لا معنى له، في قطيع مستعبد أو قوم ذل.

***

 

تعلّمتُ أن أكون مجتهدا أكثر في التعليم، حد مقاسمة جسدي المثقل بالإجهاد لأقل فسحة أو راحة خُص بها جسد كاد أن يفقد وعيه.. يرتاح هنيئة.. يستعيد فيها أنفاسه المقطوعة.. تعلمت الصبر وجالدت، وعبرت بحر العامين.. برنامج مكتظ وثقيل.. بين الميدان والمرمى والصف والركض طوال اليوم.. يبدأ من فجر الله، وينتهي في العاشرة ليلا، حين تُطفأ أنوار مساكننا..

 

تعلّمتُ الضبط والربط.. وقلقي مثل غليان ماء في المرجل.. منضبطا مثل الساعة، مضبوطا كريشة بين أنامل رسام ماهر.. لا أسمح للموعد أن يتباطآ، ولا يأخذني الإهمال.. والأخطاء ابذل فيها تصحيحا بقدر الحيل، وبذل ما في الوسع، إلا ما جاء بقدر وقضاء.. وفي الهامش مقبول وارد.. مواعيدي أحرسها بقلق جم.. احتاط دوما في الوقت، وفي الشدة احتاط أكثر، والذرب أكبر من موعد..

***

 

تخصصت مشاة، لأن القائد في الميدان مشاة.. جميع القادة تحت لوائه.. دبابات وصواريخ ومدافع، وحتى الطيران.. للمشاة الكل يُقاد، هذا المعروف وما كان يقال.. المشاة وزير دفاع، ورئيس هيئة أركان.. والجندي كما قال لينين، من لا يحلم أن يكون جنرالا فهو جنديا خامل.

 

التزام ونظام.. إجمال وتفاصيل.. مراسيم تبدو فيها بهيبة جنرال.. نظافة إلى حد أقصى.. ملبسك مكوي ونظيف.. بياده تلمع إشراقا، والشمس من ناصيتها تشرق وتطل.. وعلى الرأس مهابة تاج.. طلعتك تبدو طلة شمس من خلف جبل تتحدى ألف جدار..

 

في المسكن حذاءك جوار عمود سريرك على خط بلاط، لا يخرج عنه بشعرة رمش العين.. والخوذة على الدولاب تطل من شرفته ببنان أربع.. وفرشك نظيف مستوي دون نتوء أو ميل.. بطانيك وملابسك على عطفات بالأرقام من الواحد إلى الستة.. و”القائش” مدورا مثل قرص الشمس، وثياب مراسيمك جاهزة ومعلقة في موضعها، وأدوات طعامك ودولابك وما تحويه حقيبة ظهرك نظام في نظام.. نموذج والكل عليه..

 

وضع سريرك بمقاييس بلاط الغرفة.. كل يوم نظافة.. الغرفة.. الحمام.. الممشى والردهة.. محيط المبنى والميدان.. الحضور خلال ثوانٍ إلى الطابور فور اطلاق الصفارة.. تهرع بسرعة.. سرعتك أسرع من إعصار..

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

أحمد سيف حاشد هاشم

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى