مذكرات

(5) عقوبات ونفذ ثم ناقش !.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي

(5)

عقوبات ونفذ ثم ناقش !

أحمد سيف حاشد

كان أي ضابط مناوب أو حتى ضابط عابر في ساحة وحرم الكلية، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، ومنها تلك التي كانت شاقة على نفوسنا.. كان أي ضابط مُصدّقا علينا ولا يُرد له قول، بل حتى الطالب من الدفعة السابقة، والتي لم تتخرج بعد، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، وما عليك إلا التنفيذ أولا دون اعتراض أو تردد؛ لأنه المصدّق عليك ابتداء دون شك ولا ظن..

 كان النظام المتّبع يقوم على مبدأ الأقدمية في الغالب والأعم، وكانت مقولة “نفذ ثم ناقش” تأتي في منزلة شديدة النفاذ والأهمية في فلسفة الأوامر والعقوبات العسكرية، وإذا تظلّمت من إجراء أو عقوبة لدى الأعلى رتبة ومسؤولية عليك أنت أن تثبت صحة ما تدعيه؛ لأنه وفق الأصل هو الصادق وأنت الكذوب إلا أن تثبت صحة ما تدّعيه بالدليل الذي لا يُرد..

كما كان نظام الركض هو الأسلوب الوحيد الذي عليك اتباعه أثناء تحركك في أروقة الكلية.. ممنوع المشي أو السير البطيء في الميادين والساحات الخاصة بالكلية، عليك دائما الركض، فإن توانيت أو تساهلت أو أبطأت فيه، يتم إيقاع العقوبة عليك؛ لأنك خالفت نظام الكلية، ولا يوجد ضابط للعقوبات بحيث تساوي قدر المخالفات، فالأمر يرجع إلى تقدير من ضبط المخالفة، وبالتالي يتخذ العقوبة التي يراها مناسبة..

أمّا العقوبة المسماة بـ (الخسارة) فكنت أراها خاطئة، لاسيما وهي تطال راتب الطالب؛ لأنها لا تطاله وحده، بل تطال أفراد أسرته في مأكلهم ومشربهم! أمقت كل عقوبة تطال الأبرياء، أو تتعدّى مرتكب المخالفة، أو تصل إلى انتزاع شيئا من لقمة عيش أطفاله وأسرته..

***

العقوبات الجماعية كانت شديدة الحضور من قبل بعض الضباط المناوبين.. عقوبات جماعية تتخذ أحيانا لأسباب لا وزن لها ضد سرية أو فصيلة أو حضيرة، أو حتى الكتيبة بكاملها، ولا يوجد من يمانعها أو يعترض عليها، غير التمرد المسكون في نفوس بعضنا، والذي نعبّر عنه في ذواتنا بالتململ، أو اللعن في غيبه، ونظرات الازدراء في وجه من أتخذها ضدنا..

كنتُ أشعر أن العقوبات الجماعية تسحق وجودي، وكان يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي اجلالهم وتقديرهم.. لقد كان لدي القائد الذي يستحق الإجلال هو السوي الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد، ويقدم شخصيته على نحو يصير معها نموذجا ومثالاً وقدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.

لازلت أذكر عقوبة جماعية أرغمتنا على الصعود إلى قمة الجبل الشاهق والمسمى (a.r) كدت أسقط منه بسبب أن بيادتي علقت بسلك كان ممدودا على ظهر الجبل.. كنت مثقلا بحقيبة الظهر، وخوذة الحديد الثقيلة، والملابس الميدانية، وتوابعها “المجعّبة”.. أتكردحت وأنا نازل منه، وكدت أهوى من ظهر الجبل إلى اسفله.. صارت لدي عقدة رهاب أعاني منها، وقد كرّست عقدة رهاب أخرى قديمة، حالما كنت طفلا وتدحرجت من رأس الجبل، حتى حواني نتوء فيه، وكان تحته منحدر شديد، إن هويت فيه، سأتمزق إربا يصعب جمعها..

صار لدي رهاب مكرر من الأماكن المرتفعة، غير أن ما كان لدي أهم، إن الحادث الأخير لم يكن ناتجا عن تدريب عسكري أو حتى اختبار لياقة أو نحو ذلك مما يمكن تسويغه، ولكنه كان ناتجا عن عقوبة جماعية، نالتني دون أن ارتكب مخالفة.. لم استسيغ العقوبات الجماعية إلى اليوم إلا محمولا بالأديان وغضب الرب..

العقوبات الجماعية تطال الأبرياء والأطفال ومن رُفع عنهم القلم.. أراه غضب يتم اطلاقه في غير محله.. لا استسيغ تلك العقوبات إلا من باب التسليم الذي يثور فيه جدلا وخلاف، وليس مؤدّى أو نتاج لإعمال العقل والفكر والمنطق..

كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع ومحاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق إلى عقوبة جماعية كانتقام ثأري؛ فيصدر أمره الجازم الذي لا يخلو من حمق وقلة حيلة، بعقاب الفصيلة، أو السرية أو الدفعة كاملة في بعض الأحيان..

ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة ؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث هو دون الجريمة، إنها مخالفة تستحق الجزاء لمرتكبها، أو حتى لمن تواطأ معه، ولكن لا يجب أن تطال الأبرياء أو من لم يعلم، ولم يسمع الصوت الذي صدرت بسبه هذه العقوبة أو تلك، ولطالما تساءلت مع نفسي واغتظت في هذا الأمر…!

كنت أشعر إن العقوبات الجماعية أقرب إلى الانتقام إن لم تكن هي كذلك دون أن تخلو من عوامل تدمير للقيم والأخلاق والحقوق.. تنكيلا انتقاميا ليس له علاقة بالرشد.. أسلوب أقرب إلى الثأر لا يخلو من حمق وعجز وقلة حيلة، وينم عن عُقد متمكنة، ومركب نقص ثقيل، ربما يتحول صاحبها إلى خطر أكبر فداحة في المستقبل، لاسيما إذا أمتلك صاحبها سلطة وقرار أكبر وأخطر.. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا وتخلفا أو هكذا أعتقد..

اليوم وفي ظل هذه الحرب الضروس ولسبع سنوات طوال يعاني شعبنا من عقوبات جماعية وسياسات تضييق خانقة ومتشددة، وتنكيل متعمدة تنال من شعبنا أكثر من نيلها من أطراف الصراع والحرب الداخلية..

عقوبات كارثية تقع أكثر وأكبر أوزارها على المواطن والموظف البسيط الذي يكابد قدره، ويعيش صراعا من أجل البقاء والحياة.. ابتزاز عريض تحول شعبنا إلى محاطب حرب محاصرا بالجوع والمجاعة والفساد والظلم الأكيد..

***

كنت في الكلية أزدري في قرارة نفسي العقوبات الجسدية التي تطالنا، لاسيما ما كان يعرف بـ (السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. أحتقر تلك العقوبات ومن يتخذها.. أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. أظن أن الآمر بها مريض ولديه من مركبات النقص ما يعمي البصيرة والبصر..

أرى أن التعاطي مع تلك الأوامر يجب أن يكون في إطار التدريب، وليس في إطار تنفيذ العقوبات.. أن تأتي عقوبة “السحك” في إطار التدريب العسكري أمرا استسيغه وأعيه، بل وأدرك أهميته، أما أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة، فأرى فيها انتقاص من كرامة الطالب، وشتان ما بين الاثنين كما أظن وأعتقد..

تبدت لي العقوبات العسكرية بانطوائها على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. لطالما مقتُ بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. أمقت تلك القاعدة المعمول بها والتي تقول : (نفذ ثم ناقش).. أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريدون..

بها يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. أشعر أن إنفاذ أوامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحة، وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا، والتي تم الإمر بإنفاذها، فدمرت الوطن وكانوا ضحاياها أكثر من أن يعدّوا..

كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل أو حتى التساؤل قبل تنفيذها، والتسبب بنتائجها المدمرة والمريرة التي لم نجتاز آثارها إلى اليوم ..

لكل ذلك، كنت أسأل نفسي: يبدو أن التحاقي بالسلك العسكري جاء عن طريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن، ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير..

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

أحمد سيف حاشد هاشم

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى