(7)
أسباب خجلي ورهابي
أحمد سيف حاشد
تنشّأنا في واقع مملوء بالخوف والفزع والهلع.. حياة قاسية لا رفق فيها ولا لين.. طفولة مشوّهة نبتت في مرايا مهشّمة؛ فبدينا مسوخا أكثر شوها ورعبا.. مقموعين في البيت والمدرسة، بل ومقموعين في الحياة كلّها.. حياتنا جلّها أو كلّها ذل وإخضاع وطاعة.. بصيغة أو بأخرى سلطة أبوية تدركك أينما وليت وجهك أو ذهبتَ أو حللت.. حروب وعنف وقتل باذخ، وحياة رعب من مستهلها حتّى “عذاب القبر”..
عبودية مؤلّهه، ووعي مُدجن وطيّع وذليل.. عقول تبحث لها عن ألجمة ومرابط ومحابس وحدود.. عقول لا تتعدى آذاننا فنسمع ونخضع ونطيع.. عنفواننا أخمدوه، وصوتنا أخرسوه، وعيب بثقل الجبال أثقل الحيل والكواهل.. لا خيل هنا ولا عنان ولا صهيل.. منقادين ومسلّمين ومستسلمين.. طاعة وتوكل وتغييب وفقدان..
كذبوا علينا في الصغِر والكِبر.. تعلّمنا الكذب والتسليم والجر قبل أن نتعلم حروف الجر وأبجديات الكلام.. تشرّبنا ثقافة القطيع من نعومة الأظافر حتّى بلغنا سن الكهولة..
أحتلت الخرافة عرين الأسد، وتعاطينا مع الوهم أنه الحقيقة المطلقة.. زجرونا ومنعونا من البحث في الوجود والإجابة على الحيرة والأسئلة.. أخمدوا روح البحث فينا ووأدوا العقل والبراءة والطفولة.. رضعنا الجهل وجعلنا له مهابة وقداسة..
***
أشعر أن مرد خجلي ورهابي الى تنشئة أسرية خاطئة.. طفولتي أقل ما يمكنني أن أقول عنها إنها كانت تعيسة للغاية.. مثقلة بالقمع والقسوة، ومعتلة بالمعاناة والحرمان.. وقد تحدثت عنها وألمحت إليها في أكثر من موضع ومكان..
لقد كانت طفولة منهكة وحسّاسة ومثقلة بالألم .. يضاف إليها مشاكل أسرية جمة رافقت حياتي الأولى المتعبة، و قلق مساور في أغلب الأحيان.. كنتُ مطالبا بطاعة عمياء، وأي رفض لها، يتبعه دون مهل، العقاب القاسي والعجول، ومن دون سؤال..
عندما تُضرب أمام أقرانك، ومن هو في سنك، وتشعر إن العيون تأكل حشاشة قلبك يكون الوقع في النفس بالغا جدا لا يعرفه إلا من عاش التجربة لا من راءها.. عندما تُضرب أمام العامة يكون الإيلام أشد بل حتى التعاطف والشفقة تحس أنها تجرحك..
عندما تشعر بالإهانة يكون الإحساس قاتل.. عندما تريد أن تبلعك الأرض وأن لا يرى الناس المشهد الذي أنت فيه تتمنى فيه الموت المضاعف.. عندما يتم قمع سؤالك تعيش معركة السؤال ربما حتى آخر أيام حياتك..
كانت تثقل كاهلي سلطة أبوية صارمة وقاسية من عناوينها “اضرب ابنك واحسن أدبه، ما يموت إلا من وفاء سببه”.. “اضربه.. يقع رجال” .. “اضربوهم على عشر…. ” ثم يزيد الحمل على كاهلك الصغير و الغض، بسلطة أخرى، هي سلطة الأستاذ أو المعلم.. ويتواصل قمع السؤال من الأسرة إلى المدرسة..
يضربك الأستاذ لأقل وأتفه خطأ، بعصى أو خيزران، في صباح صقيع، على بطن وظهر كفك، وأحيانا يدعو أقرانك ليكبلوك، ويخمدوا قواك، بأيديهم وأرجلهم، ليفلك قاع قدميك، حتى يكاد الدم يتطاير من وجهك، وعروق عنقك، وقاع قدميك.. يضربك بقسوة تشبه الانتقام، بحضور ولائمي، و مشهد جماعي، دون أن يتفهم أسبابك، أو حتى يستمع لعذرك..
وقبل أن تتحرر من سلطة الأب وسلطة المعلم، تداهمك سلطة قامعة ثالثة، تقتل أهلك، وتفتش دارك، وأنت لا زلت طفلا أو حدثاً، أو دون سن البلوغ .. ثم تراقبك وتلاحقك وتتربص فيك بقية حياتك المتعبة، من أجل احتوائك، أو تدجينك وجلبك إلى عالم الطاعة والخضوع..
طالني قمع كبير لوقت طويل لإرغامي على الولاء والطاعة، ولأكون منقادا وتابعا ومطواعا “حسن السيرة و السلوك” .. بلا رأي ولا موقف ولا إرادة ولا حياة .. فيما كنت في المقابل، استميت في الاعتراض والرفض المقاوم المعلن أو غير المعلن، وتأكيد ذاتي واستقلالي الجموح.. صراع خضته باكرا و لم ينته إلى اليوم..
***
وفي سياق ضرب الأمثلة للمعاناة التي عشتها، وكان لها مدخلا على نحو أو آخر في خلق أو تعاظم ما أصابني من خجل ورهاب؛ أذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الوقائع التي لازالت حاضره بوجه ما في وعيي بعد الخمسين عام أو أكثر..
أثناء طفولتي في عدن كانت أمي تثير مخاوفي ممن تسمّيهم “الجبرت” للحيلولة دون أن أفكر في الخروج من بيتنا المُغلقة بقفل من خارجه.. أتحفّز للخروج من البيت لأرى الناس وما يجري خارج بيتنا من حياة وصخب، غير أن المنع هو السائد، وصرامته كانت من حديد، إلا ما ندر حال مرض أو زيارة أو يوم عيد، وما دون ذلك كان أشبه بالمستحيل.. وعند عودتنا إلى القرية كانت أمي لا تزل تحذّرني وتثير مخاوفي من الذهاب بعيدا من البيت حتى لا أقع في يد “الجبرت”..
كانت تخبرني أنهم يشممون الأطفال الذين يجدونهم في طريقهم عطر خاص، أو شيء من هذا القبيل، ثم ينقاد الطفل قفاهم كمسحور دون إدراك أو وعي منه.. ثم يأخذون أولئك الأطفال إلى بلاد الإنجليز، ويحبسونهم هناك، ويطعمونهم اللحم والفاكهة وأنواع الخضروات في عيش رغيد حتى يصيرون سمانا منبعجين، ومدفونين العيون بسمنتهم، ويصر دمهم كثير و وفير..
وبعدها يضربون في رؤوسهم المسامير، ويعلقونهم بأقدامهم إلى الأعلى، بحيث تتدلى رؤوسهم إلى الأسفل، ويضعون أوعية من صفيح تحت رؤوسهم؛ فينسكب الدم الغزير منهم إلى تلك الأوعية، وينزفون حتى الموت، ثم يستخدم “الجبرت” هذا الدم في صناعة الذهب والنقود المعدنية.. كانت هذه الحكاية تملأ مخيلتي بالخوف والرعب والهلع..
***
وفي القرية حالما كنت أشاغب ويريدون منّي الهدوء أو الصمت أو النوم تدعي أمي لعمتي “فنون” أخت أبي التي كانت تجمعنا معها نافذه صغيرة مشتركة في مسكننا القديم، فتغيّر وتحوّر عمّتي صوتها من أسفل الحنجرة ليصير على نحو مفزع وغريب، وهي تقول من خلف النافذة: “يا محوّل حوّل بأبن آكله” ثم تكرر وتضيف عليه حتّى يحل السكون.. تلك الجملة القصيرة بصوتها المحوّر والغريب كانت تثير فزعي وهلعي، فأهدأ أو أكف عن الفوضى والشغب وألوذ بصمت هلع..
ظلّت عقد الخوف والاضطراب والفزع تكبر معي، وما أن أتى دور المدرسة حتى وجدت خوفي يزداد من عقوبات الأستاذ كالضرب بالعصاء، والفلكة بالخيزرانة، والوقوف أمام الطلاب بساق واحدة.. وفي البيت أجد من أبي تعنيفا وتوبيخا جسديا ولفظيا، وضرب أشد قساوة من قساوة الأستاذ في المدرسة.. والأهم أن هذا وذاك كان يحدث أمام أقراني، وأحيانا أمام الكبار حتى وجدت نفسي ورهابي وخوفي وخجلي يزداد ويكبر حتّى صرتُ في تكويني النفسي من مخرجات تلك التربية القاسية والخاطئة والمشوّهة..
***
زجري من قبل أمي في صغري، وغضبها الهلع، ومنعي من الأسئلة التي تغضب الرب شارك أيضا في تعاظم رهابي.. وضاعف ذلك لاحقا زجري من قبل الأستاذ في المدرسة، وأنا أسأل عمّا يعني “البراز” الذي كان يتحدث عنه.. توتر الأستاذ من السؤال، وغرق أقراني بالضحك عقب جواب الأستاذ المنفعل حتى صرت أشعر بخجل ثقيل لا يُنسى، تبعه رهاب وخوف من الإفصاح عن كثير من الأسئلة التي تدور في خلدي، وأحجمُ عن البوح بها لكل مُهاب، غير أن هذا وذاك لم يمنع من تكاثر الأسئلة في عقلي الصغير الذي كان يريد ان يعرف كل شيء..
وفي مناسبة اخرى في الابتدائية الأولى، وفي سياق الإعداد لحفل استعراض مدرسي كان فريق عرضنا نحن المجموعة مكون من عشره طلاب.. أربعة طلاب أقويا يعتلي عليهم ثلاثة أخف وزنا منهم، ثم اثنين أقل وزنا، وكان يفترض وأنا الأصغر والأقل وزنا اعتلي الاثنين وأصير في قمة هرم الفريق، ولكنني فقدت توازني وحاولت أن أنجح مرة ثانية ولكن توازني خانني مرة أخرى، وأختل أكثر؛ فتم استبعادي من الفريق واستبدالي بطالب آخر نجح في المهمة.. شعرتُ حينها بندبة استقرت في دواخلي وخوالج وأعماق نفسي.. أحسستُ بخجل عميق يتدفق إلى أغواري، وضعف مهارة تفقدني ثقتي بنفسي، وكلها أسباب لعبت دورا في تغليظ خجلي ورهابي..
***
خجل وانطواء وخوف واضطراب ورهاب تشاركوا ضدي وأثقلوا كاهل طفولتي المزدحمة بالمتاعب والمعاناة، وربما أسباب أخرى كانت حاضرة منها وجود اختلال واعتلال في جهازي العصبي المركزي ومستقبلاتي أو ناقلاتي العصبية، واضطراباتي النفسية، وعيوب أخرى ربما خُلقية أحتلت مساحة ما في دماغي، وخلل جيني وراثي أصابني منذ تكويني وكان نواة رهابي..
أذكر أن أمي في بعض المواقف التي يعتجنها العجل في لحظات تستدعي المسارعة لفعل شيء ما، كانت ترتبك كثيرا، وتحشر الكلام ببعضه، وتراكبه وتقضمه وتداخله إلى الحد الذي لا ندري ماذا تقول!! ولا تدري هي ماذا تقول!! ولا هي في تلك اللحظة قادره أن توضح ماذا تريد إلا في أحسن الأحوال لماما ما يمكن أن نفهمه من لغة إشارة يدها، أو من طارئ حدث، كنفور بقرتها التي انتزعت منها عقالها، وكادت أن تسقط في هاوية المنحدر، أو إفلات عنان عنزه على زرع الغير، أو طلب عجول يماثل حكاية “استغاثة الأب بترك التيس وربط “جمعة” المدهوش، الذي زبط السراج دون إرادة لتحل العتمة، وقلب صحن العشاء بما فيه، وركل الأب برجله، ورفسه بالأخرى ليربط التيس..!!
كل ذلك ربما جعلني وأنا أشعر يوما ما بكل هذا النقص والاعتلال أغضب حد العتب على خالقي الذي كنت أشعر أنه لم يحسن تكويني على النحو الأمثل، أو الذي أرغب وأريد، غير أن الله يقول: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )
***
يتبع..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
Ahmed Seif Hashed channel on telegram
Ahmed Seif Hashed group on telegram