مذكرات

السلسلة السابعة.. في طور الباحة 1 – 7 أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي

السلسلة السابعة

في طور الباحة 1 – 7

(1)

مدرسة أعزتنا من الجهل

عندما انتهيتُ من المرحلة الدراسية الابتدائية كان لابد أن التحق بالمدرسة الاعدادية.. لا توجد مدرسة اعدادية في منطقتنا النائية الواقعة في أقصى الأطراف الجنوبية لسلطة صنعاء، والتي كانت تسمي نفسها دولة، وكنّا نسميها السلطة في الشمال..

كانت منطقتنا وقريتنا بعيدة ومحرومة من أبسط الخدمات.. لا مواصلات ولا اتصالات ولا صحة ولا رعاية اجتماعية ولا نجد أدنى اهتمام من قبل تلك السلطة.. لا نجد لها أثرا في حياتنا إلا بما يزيد من وطأة المعاناة التي تثقل كواهل أهلنا مثل (التنافيذ) والملاحقات الأمنية والجبايات الزكوية..

خدمات الدولة نحونا لا نلمسها ولا نحس بها، وهي بمثابة صفرا كبيرا بحجم غياب وطن، والنادر والقليل لا يصل، وإن وصل لا يغيّر الحال.. حتى التعليم وبناء الفصول الدراسية الابتدائية كانت تقع نفقات بنائها على كاهل آبائنا.. كانت الدولة في حقيقتها مجرد سلطة ليس عليها واجبا لنا، ولها علينا كل الحقوق والواجبات.. الجهل يعترش حالنا ويتسيد العقول، ونحن نحاول انتزاع ما أمكن انتزاعه من المستحيل.. نحاول شق طريقا للنور وسط ذلك الظلام الكثيف..

لم يكن لنا مناص من جور جهل محتوم، إلا دولة الجنوب حيث كانت توجد مدرسة إعدادية في مركز طور الباحة الذي كنا نرتاد سوقه يوم السبت من كل أسبوع إن دعت الحاجة أو الضرورة.. وتبعد تلك المدرسة عن قريتنا مسافة في حدود العشرين كيلو متر، ولحسن حظنا أنه كان يوجد قسما داخليا ملحقا بالمدرسة، يُوفر فيه لأمثالنا المسكن والغذاء.

كانت (مدرسة الشهيد نجيب) الإعدادية في طور الباحة هي عاصمنا من جهل, وكان كثير من طلاب المناطق المجاورة في الشمال والمهددين بالجهل والضياع أو انقطاع الدراسة يجدون في هذه المدرسة مُنقذا وملاذا من جهل مُحقق..

مدرسة كبيرة مقارنة مع ما مررنا به وما عرفناه حينها من مدارس، فضلا عن كونها نظيفة ومرتّبة ومدرسيها أكفَاء.. غمرتني السعادة وأنا أجد حُجرات دراسية فسيحة، وطريقة هندسية في البناء حديثة وزاهية، ونوافذها من زجاج مميّز، وكراسي تليق بمن هم أرفع منّا مقاما ومستوى.. اجمالا لم أعهد مدرسة مثلها من قبل، وكان قسمها الداخلي جديدا أو حديث بناء..

غمرتنا السعادة ونحن نستلم في أول يوم من التحاقنا بهذه المدرسة أغطية ومفارش جديدة وأدوات أكل نظيفة.. كل شيء مجانا ودون نقائص أو معايب، غير أن التغذية فقط لم تكن تكفينا أو أن شهيتنا للأكل كانت أكثر مما يُقدّم لنا، وإجمالا كان سوء التغذية يلازمني خلال فترة دراستي الإعدادية في هذه المدرسة التي أعزتنا من جهل أكيد..

كانت الحُمَّى كثيرا ما تداهمني وتجتاحني، وكنت أستلذ بالشمس كلما اعترتني عروة الحُمّى.. كان فقر الدم وسوء التغذية ملازمين لي، وثقيلين على صحتي.. أعاني أحيانا من الفاقة والعوز، وكانت أمي أكثر من تساعدني في تجاوز تلك المرحلة..

كان مسموحا لمن أراد منّا أن يغادر ظهر الخميس ويقضي إجازة الجمعة بين أهله، على أن يعود للمدرسة صباح السبت.. السيارات تقلّني إلى (رأس وادي شعب) عند الرواح، وبعدها أكمل العودة إلى القرية مشياً على الأقدام، ومثله في الذهاب..

أحيانا كنت امشي سيرا على الأقدام من البيت حتى (طور الباحة) لأستفيد من مصروف المواصلات التي كان يعطيها لي والدي، وأحيانا أفعلها أيضا عند الإياب.. وعند المشي كنّا نبحث عن الطرق المختصرة مثل “طريق نفاخة” وأحيانا نتسلق في مؤخرة السيارات في وسط الطريق مجاناً، نطلق عليها (تعبيرة)، في إشارة إلى نقلنا بدون مقابل..

يا لنبل وروعة مالكي السيارات الذين كانوا يقدِرون ظروفنا، ولا يأخذون منا أجراً مقابل نقلنا!! يا لنبل “أبو شنب” صاحب السيارة “المكرضح”، الإنسان الذي كان أكثر من يغرقنا بالمعروف والجميل الباقي إلى اليوم.. يا لجمال روح “راجح” الإنسان الفقير الذي ينبجس بغناء النفس، ويتدفق جمالا وإنسانية وعطاء.. وعبدالنور الجميل وصالح سعيد وغيرهم ممن تعلمت منهم أهمية أن يصنع المرء جميلا في حياته مع من يحتاجون إليه.. جميعهم رحلوا ولم ترحل عنّا معانيهم الإنسانية السامية..

***

 

(2)

تطرف يساري ثوري

كانت المرحلة التي يعيشها الجنوب في تلك الفترة يسارية وثورية متشددة، وفي أفضل الأحوال لا تخلو من نزعات الطيش والتطرف والحماس الفائض عن حاجته.. كان طلاب “الترحيلات” أثناء ما تقلهم سيارات (اللاندرفر) المكشوفة إلى المدرسة في طور الباحة، أو عند إيابهم، ومعهم بعض المواطنين، يرددون هتافات ثورية، ولكن بعضها كان ذات طابع تحريضي لا يخلو من ممارسة الإكراه ضد من هو متحفظ مما يحدث، أو له رأي مختلف فيه.. هتافات لا تخلو من قمع معنوي، ولي ذراع، بل وربما إرهاب ضد من لا يعلن تأييده لمسار التوجه السياسي الثوري المعلن..

كانت بعض تلك الهتافات تدعي لنفسها أو لأصحابها الحق والصواب واحتكار الحقيقة، وتمارس الإقصاء بحق المختلف معها.. هتافات لا تقبل التنوع والتعدد في الرأي، ولا تتعاطى مع الرأي الآخر، وتأنس إلى تقسيم الناس إلى “مع وضد”، وبالتالي تمارس تحريضها الذي يصل حد إرهاب الصامتين، الذين تصفهم بالسلبيين..

إنه موقف شمولي ومتطرف خلاصته “من ليس معنا فهو ضدنا” موقف الصامتين او المترددين كان موصوفا بالسلبي، وهو موقف لا يروق لبعض من يعتبروا أنفسهم ثوريين مدججين بالوعي الثوري، ويتم إرهاب وتوعد السلبين بضربهم في المستقبل بيد من حديد..

ومن تلك الهتافات التي مازالت عالقة في ذاكرتي:

“يا ويلك ويل يا سلبي من ضربتنا العنيفة

والمتستر بيُكشف والمراحل طويلة”

هتاف آخر كان يحزُ في نفسي، ويترك أثرا أداريه عمِّن كانوا حولي يقول: “دقوا المشايخ.. دقوهم”، ربما كان السبب يرجع إلى أن إخوة أمي في الشمال محسوبين على فئة “المشايخ” رغم ان ظروفهم كانت متواضعة للغاية وربما بائسة.. لم تكن ثمة فروق اجتماعية مهمة تُميزهم عن عامة الناس، أو على الأقل بالنسبة للوسط فيهم..

اتذَكر أن خالي أخ أمي (علي سالم ـ دعبل) كان يقترض ويستدين بعض المال من والدي الذي هو أيضا في حال ضيق وغير ميسور.. وكان جدي، والد أمِّي، معروفاً بزهده وتواضعه، وكان يعمل لآخرته على حساب دنياه، وأغلب وقته معتكفا يتلو القرآن في ديوانه أو حجرته تقرُّبا إلى ربه، راجيا رحمته وجنته، غير أن هذا لم يعفه من ممارسات تطرف وطيش اليسار في الجنوب، عندما ذهب إلى عدن بغرض تلقِّي العلاج؛ أخفي قسرياً، وانقطعت أخباره مذ ذلك الحين، ولم نعد نعرف شيئا عنه إلى اليوم..

***

وبين الماضي والحاضر تشابه المتطرفون بفيض حماسهم الزائد، وادعاءهم باحتكار الحقيقة والصواب، وما عشناه في سنوات هذه الحرب وما لازلنا نعيشه وما عانيناه فيها من صبيانية وتطرف وعنصرية شاهد وعلم، يذكّرنا بكل من يرى أن الحياة بلونين فقط أبيضا وأسودا.. الحياة لديهم لا تقبل أن تكون محايدا أو بموقف مختلف عن اصطفافاتهم، أو تكون حتى ضد أطراف الصراع مجتمعين.. ومثل هذا يقال أيضا حيال موقف اطراف الحرب والصراع من قضايا وحقوق الرأي والتعبير..

يخنقنا مثل هذا التطرف المغلق في وجه التعدد والتنوع.. كل طرف في الحرب كان يريد أن يجرّنا إلى مستنقعه الملوث، بل ويريد أن يحملنا ويغمسنا في مستنقعه حتى يصل بنا إلى حضيضه وقيعانه السحيقة.. كل يريد أن تكون في خندقه واصطفافه.. كل يرى أن الوطن جربة أبوه، بل ويرى ذاته هو الوطن كما يتصور ويعتقد..

ومع السنين بدأت تتكشف كثير من الأوهام، ولكن كانت بكلفة وطن بات ممزقا ومبددا.. إنه زمن التافهين والمتطرفين والمخرجات الرديئة لهذه الحرب المكتظة بالبشاعات والمؤامرات والكراهية، والمثقلة بالدمار والخراب الوخيم..

التطرف خطر ليس على المغاير والمختلف فحسب، ولكن على العقل والمنطق والحكمة والتعدد والتنوع والسوية.. خطر على الشعب والمجتمع والمستقبل.. سياسية “من ليس معنا فهو ضدنا” سياسة مرعبة ومدمرة للشعوب والأوطان والمستقبل الذي ننشده..

الجماعات الدينية المتطرفة تقسم الناس إلى فسطاطين فقط، وبعض الحركات الدينية كالحوثيين توحشت وصارت بعد تمكين تستعدي من ليس معها، وتصفه بالخائن والمرتزق أو المنافق الذي يتعين اخضاعه لمشروعها الخاص والصغير، أو سحقه ببأسها وقمعها وسطوتها المرعبة، فيما جماعات سياسية أخرى في المقابل تطرفت، وتماهت مع العدوان والاحتلال حتى صارت حاملة لأجنداته ومُنفّذا لها على حساب الوطن ومستقبله..

***

وعودة إلى ما كنت بصدده: درست المرحلة الإعدادية في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة في اواسط السبعينات وتحديدا من العام (1976 ـ 1978) إن لم تخنِ الذاكرة..

أقمت في (القسم الداخلي) وكان عدد غير قليل من أبناء المناطق الشمالية المجاورة يلتحقون بهذه المدرسة ويقيمون في قسمها الداخلي، وتوفر لهم دولة الجنوب التغذية إضافة إلى السكن.. بل كان مدير المدرسة من الشمال هو عبده علي من قبيطة الأكروب، وكان حسن محمد علي نائبها السياسي من قبيطة صبيح في الشمال، وكذا مسؤول المركز الثقافي كان من معبق أو صوالحة الشمال ..

سبب توجهنا إلى الجنوب للدراسة إما بسبب عدم وجود مدارس إعدادية في أريافنا المُتعبة، وإما لأسباب سياسية واجتماعية حملتنا على التوجه للدراسة في هذه المدرسة الجنوبية التي لا ننسى معروفها علينا مهما تقادمت الأيام والسنون..

إجمالا كان لدولة الجنوب ـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ـ الفضل الذي لم ولن ننساه ولن نجحده، لقد كنّا بأمس الحاجة للتعليم، ودونها افترسنا الجهل ونهبنا الغياب، وربما ضياعنا كان احتمالا واردا، إن لم يكن بحكم المحقق والأكيد.. وفي هذا المقام لا بأس من استحضار قول الشاعر المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.

***

 

 (3)

فصلي من المدرسة

تم فصلي من مدرسة الشهيد نجيب في مركز طور الباحة مدة أسبوعين على الأرجح أو أقل منها، وكان قرار الفصل هذا غير محدد في البداية، وتداخل مع ضغط أداري ونفسي لحملي على الاعتراف بما جنيت، ولكنني لم اعترف، رغم دمغي بالدليل..

 

تركت مدرسة “الوحدة” على إثر لعنة أطلقتها على المدرسة، فاستثرت غضب المدرس الأول في المدرسة، الذي ترك الطاولة التي أمامه، وحاول اللحاق بي، ولكن كانت سيقاني أخف منه، ولم أعود إليه ولا إلى المدرسة، وأطلقت لعنتي على المدرسة في ذروة انفعالي، وأصابتني وحدي ولم تُصب أحد سواي..

 

الفارق أن تركي الأول كان للانفعال اللحظي دورة الأهم، وكانت للمكابرة أيضا دورها في عدم طلب المراجعة، وعدم تحمُّس والدي للعودة، وقد آثر أن أدرس في شعب بدلا من المراجعة..

 

أما فصلي لأسبوعين من مدرسة الشهيد نجيب، في السنة الأولى إعدادي من قبل مدير المدرسة عبده علي الزغير، فقد جاء دعما للضغط النفسي، من أجل دفعي إلى أن أقر وأعترف على نفسي ومن معي، والأهم أن الاتهام والفصل جاء بعد صبر وتحرّي لا يخلو من مكر ودهاء..

 

***

جميل قائد صالح كان من أعز زملائي وأصدقائي في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة.. كانت بيننا حميمية كبيرة وربما انسجام أبراج وطوالع.. اتفقنا على صياغة منشور، وتم شراء أوراق بيضاء، وتم تقسيمها إلى قصاصات متساوية ولافتة، ولأن خطي كان أجمل من صديقي توليتُ كتابته.. كتبتُ ما أتفقنا عليه.. دافعنا كان محترما، وما كتبناه كان غير محترم، وقد تضمن تشهير وإساءة، وتم توزيع تلك القصاصات سرا من كلينا في السوق وأروقة المدرسة.

 

تم إبلاغ مدير المدرسة ببعض تلك القصاصات التي تم العثور عليها، وربما أرسل هو من يقوم بجمع ما تبقى مرميا منها.. تم الاستغراق فيما ورد فيها، وتفحص حروفها وكلماتها وخطها وطريقة كتابتها، وبُذل الجهد للوصول إلى معرفة كاتبها.. أستمر التحرّي أياما لا أذكر عددها أو ربما مر أسبوع من كتابتها وتوزيعها..

 

ظل التحري يجري باهتمام وكتمان شديد، فيما كنّا أنا وصديقي جميل نعتقد إن الأمر قد تم تجاوزه، ولم يحدث حتى الضجيج الذي أردناه للوقوف أمام ما أوردناه في المنشور، ولم نعلم بأي إجراءات مما كنّا نتوخاها من توزيعه..

 

ربما ما فعلناه أنا وزميلي كان عملا طائشا بل وصبيانيا، وأظن إن المدير كان أكثر حكمة، وتعاطى بمسؤولية جمّة حيال ما حدث، وأظهر تحرّيه وكتمانه عن حس عالي ومسؤولية لدى المدير تستحق التقدير، وإذا كان هناك من مأخذ عليه، فهو أنه لم يجر التحقيق بحقيقة ما ورد في المنشور، حتى وإن كان ما فعلناه لا يخلوا من سخافة، وربما تم شيئا من ذلك، ولكن لم يتنام إلى علمنا، وكان تصرفه قد جرى على نحو صائب وحكيم، وبكلفة أقل، ومن دون ضجيج.. ربما كان الحق كله لدى الأستاذ المدير عبده علي الصغير..

 

ولكن كيف أكتشف المدير بأنني كاتب هذا المنشور؟! هذا السؤال الذي كان يجوس داخلي!! حيرة ظلت تتملكني قبل أن أعرف ما بدد بعضها، وبقي بعضها شاخصا إلى اليوم..

 

لقد درجت في كتابة الدروس والإجابة على أسئلة الواجبات بتقليد خط زميلي مصطفى الفاضلي.. كان خطة جميل وذو رونق جاذب وأخاذ.. كنتُ أحاول أن أحاكي وأقلد خطه البديع والساحر.. كان زميلي مصطفى يكتب حرف (هـ) بطريقة مميزة تبدو كحلقتين متداخلتين إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة.. كان يكتبها بتميّز مختلف.. صرت أقلّده في كتابتها، وكانت هي الثغرة التي كشفت ما أداريه، أو كانت هي الخيط الذي قاد إلى الدليل، إن لم يكن هو الدليل ذاته..

 

وفيما كنتُ الساعة السابعة مساء منكبا على كتابة الواجبات المدرسية في القسم الداخلي، تخاتل مدير المدرسة بخطوات مهموسة لم أسمع وقعها، وما أن رفعت رأسي بعد دقائق، وتطلعت إلى أعلى حتى شاهدته وهو واقفا يتفرس ما أكتب وهو قائم.. الحقيقة لم يخطر على بالي إن الأمر يتعلق في البحث عن كاتب المنشور!! لا أدري لماذا قصدني أنا بالذات دون البقية؟! لا أظنها صدفة!! لا أدري كيف قادته قدماه إلى عندي دون غيري!! تلك كانت حيرتي طيلة محنتي تلك..

 

وبعد تصفح عجول للدفتر الذي كنت أكتب فيه، أخذه معه؛ وقال لي وهو مُجفلا: ألحقني الى الإدارة؟! الحقيقة لم أكن أعلم إن الأمر يتعلق بالمنشور، وكانت الدهشة تتلبس وجهي، ولم أكن أعلم إن أحد سيهتدي إلى خطي ربما بين مئات الطلاب!! لا أدري كيف اختارني من عشرات الطلاب الذين كانوا لحظتها يراجعون دروسهم في القسم الداخلي!! لا أدري كيف اهتدى ليصل لكاتب المنشور خلال أيام أو أسبوع على الأكثر، ودون أن أعلم أو يعلم أحد من اصدقائي إنه يبحث عن شخص ما!! كان الأمر بالنسبة لي مثار حيرة وسؤال..

 

وصلتُ إلى مقر الإدارة، واستقبلني المدير استقبال المحقق الرزين والحازم.. كان هادئا وواثقا جدا من أنني أنا من كتبت المنشور، لا أحد سواي! ولكنه يريد فقط أن يعرف من شاركني ودفعني وحرضني على كتابته؟! كان يحمل يقينية كبيرة أنني كاتب المنشور، فيما كنت أنا أنكر، وأناكر بإمعان وإصرار، رغم إن الأمر قد بديت فيه مكشوفا حد العري.. ربما لا أجيد الكذب ولكني متصلّب في الإنكار..

 

وبالإصرار على إنكاري وضعته في محل تحدّي، فقد صار هو أيضا يريد أن يسمع الاعتراف منّي شخصيا رغم أن كل شيئا بات واضحا في قناعته، وحتى في قناعتي المختبئة التي داريتها عنه.. فعندما كان يستعرض أمامي المقارنة بين خطي وخط المنشور، ويدمغني فيه بالقرينة والدليل، ويثبت لي إن حرف (هـ) متشابه بين ما هو موجود في المنشور، وما هو مكتوب بدفتري، بل وفي حل الواجب الذي كنت أكتبه، وهو واقفا يرصد الكلمات التي أكتبها، ثم انتقل إلى بعض الأحرف والكلمات من أجل أن استسلم وأعترف له بالتفاصيل.. كان ينتظر انهياري أو استسلامي بالاعتراف، وقد بدأ منطقه قويا وسائغا ولا ينكره إلا مناكر، وكنت بالفعل ذلك المناكر..

 

أمعنت بإصرار صبياني أنني لست أنا، دون أن أفكر بتقديم أي قرينة أو تسويغ تدعم إنكاري.. “فاقد الشيء لا يعطيه”، وكنت كذلك، وفي نفس الوقت كنت أعلم إن الاعتراف سيجرني إلى كثير من التفاصيل، وأن على رأس ما هو مطلوب مني هو معرفة من الذي أشترك معي..

 

لم أحاول حتى الدفاع عن نفسي بدفع التهمة عنها بالإشارة أنني لست وحدي من يكتب حرف “هـ” على ذلك النحو، وبالتالي أجر زميلي مصطفى الفاضلي إلى حالة الاشتباه، رغم أن مصطفى لم يكن يعرف شيئا عمّا عزمنا عليه وفعلناه أنا وزميلي جميل قائد.

 

كما كنت أرى استحالة أن أرمي زميلي جميل في دائرة الاتهام.. ربما أشعر أنني سأغدو نذلا وجبانا إن حاولت أرمي بحملي على زميلي وصديقي الذي كانت تجمعني به حميمية قوية وصحبة مائزة لا يمكنني التضحية بها، بل هي من تستحق التضحية، وبأي كلفة تمليها شهامتي، ويتعيّن دفعها..

 

كان وهو يحقق معي يحاول استدراجي للاعتراف بتسهيل نتائجه، بل يغريني أنه سيعفيني من أي عقاب، وسيحمل المسؤولية للشريك كان فردا أو أكثر.. شعرت أنني سأكون دون شهامة أو رجولة إن أخبرته فقط أنني لست وحدي من يكتب “هـ” على ذلك النحو، وشعرت أيضا إنه من الحقارة أن أدافع عن نفسي بذكر اسم صديقي مصطفى الذي كان بريئا تماما مما حدث.. آثرت الإنكار، والإيغال فيه رغم أنه لا يبرئ ساحتي..

 

كانت العديد من الأسئلة تجوس داخلي: لماذا أنا فقط الذي نالني التحقيق، ولم ينال أحد غيري بما فيهم حتى مصطفى الفاضلي، وهو الأشهر بخطه وبكتابة الـ “هـ” بتلك الطريقة؟! لماذا أنا بالتحديد، فيما زميلي وصديقي مصطفى هو الأصل والمبدع الغير مُقلد، أما أنا فمجرد مقلدا له؟! كيف يفوت الأصل ويتم الامساك بمن هو دونه؟! كيف عرف المدير إن هذا خطي أنا بالتحديد بين مئات الطلاب الدارسين في نفس المدرسة؟! لم أعلم أنه قد أخذ المدير دفتر أي طالب لمقارنة خطه بالمنشور!! كيف عرف أنني أنا بالذات من كتب المنشور من بين احتمال أكثر من مائة طالب في القسم الداخلي؟! لقد استخلصت استحالة أن يكون ما حدث محض صدفة؟!

استبسل إنكاري، وفشلت كل محاولات الترهيب والترغيب الذي أبداها مديري أثناء التحقيق، بما فيها تهديدي بإحالتي للبحث الجنائي في المركز، واختار عوضا عنه فصلي من المدرسة دون تحديد أي مدة، وفي نفس الوقت ألزمني بعدم مغادرة القسم الداخلي، مع ترك الباب مواربا للاعتراف له في أي وقت أجد رغبتي فيه..

أستمر فصلي أسبوعين او أقل منها، وأكثر من وصلت له هو أن “الشُرعي” وكان مناط به إدارة المركز الثقافي، هو أحد من عثر على منشوراتي وقام بجمعها بكتمان وسرية مع آخرين من وسط السوق والساحات القريبة..

 

وكان مدير المدرسة كل يوم أو يومين وأحيانا ثلاث أيام يحاول استدعائي، والتأكد عمّا إذا كنت أنوي أو أعزم على الاعتراف والرجوع عن الانكار، ولكن دون فائدة.. بعد أسبوعين من الفشل في الحصول على اعتراف لا على نفسي ولا على غيري، أكتفى بالأسبوعين كعقوبة فصل إدارية، وأعادني إلى الدراسة، وأنتهى الأمر عند هذا الحد.. ومع ذلك أعترف بحنكة هذا المدير وحكمته، وما لديه من ملكة المحقق الناجح، وأكثر من ذلك كان تربويا من الطراز الرفيع..

***

 

 

(4)

سالمين وفتاح وخيبتي الدامية

في سنة ثاني إعدادي على الأرجح تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين، وأمين عام التنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل الذي كان لا يقل أهمية عنه، مع فارق شعبية الأول ونخبوية الثاني.. خرجنا من المدرسة لاستقبالهما ونحن سعداء، ومغمورين بالفرح، وملتاعين بالاشتياق، في يوم بدا لنا استثنائيا، وللمركز الذي أستنفر جنوده وضباطه ومسؤوليه، وجمع غفير من المواطنين، وذلك لاستقبال كبار رجال الدولة وكبار الضيوف.. خرجنا نحن الطلاب بصفوف منتظمة، ثم صرنا منتظمين في صفين على جانبي الطريق الممتد من بوابة المركز وحتى مسافة تزيد عن الكيلو متر باتجاه طريق قدومهما..

 

كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى الذي كان لا يزال حديث العهد، والمقدم هدية من دولة الكويت، وتم تسميته باسم طيار عسكري من منطقة معبق في الشمال، درس وتخرج واستشهد في الجنوب، لم أعد أتذكر اسمه، ولكني أتذكر أن لقبه “الجليدي” وكان أخويه زميلين لي في نفس المدرسة..

كنت أتحيّن بصبر وأتشوق بلهفة لأرى سالمين وعبد الفتاح إسماعيل.. كنت أحدّث نفسي: إن هكذا حدث أو فرصة لن تتكرر في حياتي مرتين.. غير أن ما حدث، كان هو الأكثر سوءا.. لقد تم افساد هذه الفرصة، ولم تتأت أخرى غيرها..

أردتُ أن أشطح وأفاخر أمام أقراني في القرية ـ التي لا تعرف الرؤساء ولا الزيارات ـ انني شاهدت وجها لوجه الرئيس المحبوب سالمين، والمنظّر الفذ عبد الفتاح إسماعيل.. كان وقع سماع الاسماء على المسامع داهش وجاذب، فما بال وأنا أروي أنهم مروا من أمامي على مسافة  أمتار قليلة، وهما يلوحان لنا بالتحية والسلام..

وفيما أنا انتظر قدومهما، بديت وكأن التاريخ سيكرمني بمشاهدة رجلين هما من صانعيه.. أردت أن أقول لأقراني في قريتي: لقد حملقت وجالت عيوني بمن تتوق له العيون.. لقد رأيت ما لم ترون.. لقد طلت من المعرفة ما هو عصيا عن جمعكم.. لقد أردت أن أرد لأقراني الصاع صاعين متذكرا زمن الطفولة، وهم يتفاخرون بزيارة موالد الخضر واليأس وسعيد ابن عبدان، وكأنهم يتحدثون عن غزو الفضاء، فيما أنا حاسرا وبائس أمضغ جراحي وحسرتي بصمت ثقيل وحزن أكثر كثافة..

كنت أتحين مرور الرئيس والأمين العام من مسافة قريبة أمامي، وأتمنى مرورهما ببطيء شديد؛ لأغرف النظر منهما قدر ما أستطيع، وأكتنز في الذاكرة وجوههما وهيئتهما وكثير من التفاصيل، أو على الأقل ما قدرت على التقاطه وحفظه في الذاكرة.. إنها المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها مباشرة الرئيس والأمين العام، ولكن طال الانتظار الثقيل تحت هجير الشمس الحارقة، وتأخر وصولهما عن الوقت والموعد المحدد..

كان في الاصطفاف المقابل في الجهة الأخرى مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة، سبق أن تعاركت معهم أكثر من مرة، ولطالما استفزوني مرات عديدة.. كان بيني وبينهم بُغض صبيان وتحدّي معاند، وكانوا أشبه بعصابة متربصة.. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي، وأنني لست من أهل تلك الديار، وربما هم شعروا أيضا أنني دخيلا وغريبا أثير استفزازهم..

ظلوا يرمقونني ويسخرون مني ويستهزئون بي ويضحكون عليّ ويتحدونني.. وأنا في المقابل استنهضت التحدي، وقلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا وهو، رأس برأس، فنزل أحدهم وكان ممتلأ البدن، وبصحة ينبض بريقها كالشمس.. كان معتبي الجسد، كثيف وأشقر الشعر والبشرة، يشبه أولاد الإنجليز، فيما كنت أنا نحيفا ومنهكا، وضعيف البنية، وأعاني من سوءٍ في التغذية.. قلت لنفسي وأنا أرى الاختلال الكبير في المعادلة: ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا، أو ترجح الأمر لصالحي..

قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل القريبة على بعد 200 متر، حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، وكان رفقائه واثقين أن الانتصار صار بالنسبة لهم حليف وأكيد، ومن دون جدل أو احتمال مغاير، فلا مقارنة بيننا، فإن كان لا بد من المقارنة، فهي لصالح خصمي كاملة..

صعد رفقاؤه رأس تلة الرمل أو بالأحرى اعتلوا نتوء الرمل القريب، ليرون مشهد العراك، وكنت أخفي سكينا صغيرة ورفيعة ـ تستخدم لتقطيع الروتي ـ اشتريتها قبل بضعة أيام، تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل، ولاسيما أنهم كانوا يتربصون بي كعصابة في الأيام القليلة التي خلت..

وصلنا منفردان إلى المكان الذي اخترناه للمبارزة، ربما كنت جبانا وماكرا، وربما أردت دحر هزيمة مريرة باتت بحكم الأكيد.. تملكه الارباك وأنا استل السكين بمباغته وسرعة، وأباشره بطعنة في البطن؛ فهرب مذعورا وصارخا “سكين.. سكين”.. فيما كنت ألاحقه، وأحاول طعنه في أكثر من مكان، وكان قد أصاب العوج نصلها الرفيع إثر طعنة وجهتها إلى رأسه القوي وهو هارب.. كنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب معادلة العراك بالكامل لصالحة، وبالتالي سيكون انتقامه أكبر، فلم اعطه فرصة كتلك، فيما أصاب أصحابه تشتت في الذهن وإرباك في ردة الفعل..

 هرع مدرسان لنجدته، وانتزعا مني السكين، ومسكا بي بشدة وقوة كما تمسك الشرطة المجرمين، وعندما رمقت من اعتركت معه، وكان يصرخ متوعدا بقتلي، تفاجأتُ برؤية كمية الدم وغزارته على قميصه الأبيض.. لم أكن أعلم أن كل هذا الدم سينبجس من البطن، وبتلك السرعة والغزارة..

لقد كان الدم ينزف على نحو لم أكن أتوقعه.. بدأت أشعر بفداحة ما فعلت، وشعرت بالندم والحسرة، بل والحزن عليه.. أحسست بالقلق من أن يصل الأمر حد الفاجعة.. شعرت أنني كنت متهورا وأحمقا وإن المقامرة والتحدّي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من سوي إلى مجرم وقاتل..  لقد كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث حتى وإن بديت أكثر جبنا..

نقلوه إلى المستشفى، ونقلوني إلى السجن وكان الأسف كبيرا.. أسفت لفعلي وأسفت للمصاب، وأسفت أكثر لفوات فرصة أن أرى الرئيس سالمين والأمين عبدالفتاح اسماعيل، اللذان وصلا وقد وصلتُ إلى السجن قبل مجيئهم.. فاتت الفرصة التي تحينتها ولم تعد مرة أخرى وإلى الأبد..

 ومثلما كانت خيبتي يومها حمقاء ودامية، حزنتُ كثيرا عندما خيّب الدم تاريخ الرفاق الكبار، وكأن ما حدث لي في ذلك اليوم نذير شؤم حاكى نهايات كان يفترض أن تكون مديدة ومشرقة، ولكن كان للقدر كلمته التي كان بوسعنا أن نحسب حسابها من قبل، ولكننا جميعنا أخطأنا الحساب، وكانت تلك النهايات دامية ومؤسفة وطائشة..

***

 

(5)

في السجن !

فيما كنت قد صرت في قبضة العسكر، هرع أحد أقرباء المصاب، أظنه ابن عمه، اسمه طلال على الأرجح.. فارع الطول ومتناسق البنية، وبشرته تميل خفيفا إلى السُمرة.. أول ما شاهدني صدمته هيئتي.. بديت دون توقعه أو دون ما كان يتخيله.. وجدني أمامه قزما ضئيلا لا احمل ما يستحق المقارنة مع ابن عمه المصاب.. صرخ في وجه من كان موجودا بغضب ناقم: ”لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا”؟! ربما كان محقا إن نظرنا للأمر بمقياسه.. بالفعل كان شكلي قزما، منهك، شحوب، شارد، عابس، متعوس، فيما كان قريبه المصاب مربربا، تبدو من ملامحه فرط النعمة، ويبدو بسحنة أجنبي يرفل برغد العيش ورخاء يتحدث عن نفسه.. شعره ووجنتيه ولون عينيه وجسمه المكنوز باللحم والشحم..

 

صرت أرقب بعض ما يحدث.. اعداد أمر الحبس.. حرص العسكر على أن لا أفلت أو أهرب.. تفرس العسكر في قراءة وجهي العبوس الملبد بالصمت.. لمحت وجود تساؤلات غامضة في وجوه بعض الحاضرين.. أحسست بوجود كلام يريد ممعني النظر أن يقولوه، ولكنهم داروه لأسباب ربما تخصهم..

 

أرقب التوجيه المكتوب بأمر الحبس.. تسليم أمر الحبس لمسؤول الحجز.. اصطحابي إلى غرفة الحجز.. فتح القفل والسلاسل.. فتح باب غرفة الحجز.. توجيه الأمر لي بالدخول.. اغلاق الباب بالسلاسل والقفل ذو الحجم الكبير.. أحسست أنني قد أرتكبتُ أمر جلل ووخيم..

 

كانت المرة الأولى التي أحتبس فيها.. تجربة مريرة أدخل فيها لأول مرة.. إحساس كثيف بقيد الحرية بحيطان وجدران وحديد.. كانت غرفة الحجز بطول خمسة أمتار أو أقل، وعرض مترين وربما أكثر قليلا، ونافذة صغيرة مشبكة بالحديد.. أحسست أنني أدخل مرحلة أكثر قتامة في حياتي، ويجب أن أتهيأ وأستعد للأسوأ.. شعرت أن مجهولا سيئا ينتظرني لا أعرف بالضبط تفاصيله ونهايته..

 

كانت غرفة الحجز فارغة لا يوجد فيها محابيس غيري.. ربما كانت مناسبة الزيارة والضيوف تقتضي ذلك.. وربما تم نقل بعض السجناء إلى مبنى المركز الواقع على الطور، أو كان هناك سجن آخر في مبنى المركز..

 

تمنيت أن يزور سالمين وعبد الفتاح غرفة الحجز.. لعلي أراهم عن كثب.. لعلهم يتفقدون أروقة المكان أو حتى زيارة الضباط والجنود المرابطون فيه، ولكن للأسف لم يحدث هذا.. وبدلا مما كنت أروم مشاهدته من طلعات بهية، وأيادي وأكف تلوح لنا بالتحية والسلام، صرت أتفرس سقف كئيب وحيطان خرساء.. لا ونيس لي غير خرابيش وذكريات سجناء على تلك الحيطان العارية.. وددت أن يكون لدي قلم سحري، أو قطعة فحم، أو حتى مسمار أخربش فيه، وأكتب ذكرياتي وتاريخ حبسي على حائط الجدار، لأقول للنزلاء الجدد أو القادمين بعد حين: نحن مررنا من هنا، ومكثنا بعض الوقت فيه..

 

للمصادفة وسوء الحظ أن أمي كانت مريضة وترقد في نفس المستشفى الذي أسعف لها المصاب، بل أن أخو المصاب كان هو مدير المستشفى ذاته.. بدأت أشعر بالقلق حيال أمي.. كيف سيتم معاملتها بعد فعلتي التي نالت دما من أخ مدير المستشفى؟!! ربما يطردونها، ربما يلحقون بها ضررا، أو يناولوها السم باعتباره دواء أو عقار، ويتم فيه الانتقام لمصابهم من أمي النزيلة في المستشفى للعلاج.. زاد قلقي وتوجسي وخيالاتي البعيدة بشأن أمي التي ليس لها غيري هناك..

 

بعد ساعة أو أكثر من انتهاء الحفل الخطابي، استدعاني ضابط البحث الجنائي.. أحضروني إليه.. شاهدت السكين على الطاولة محرزة باهتمام باعتبارها أداة جريمة.. أمر ضابط البحث كاتبه أن يفتح المحضر، وتلى عليه مقدمة أشعرتني أن الأمر جسيم، وأنني أسير إلى طريق المحكمة، وتوقيع عقوبة تفوق قدرتي على الاحتمال..

 

وبعد السؤال والجواب والاعتراف بما هو مشهود، ومواجهتي بالسكين أداة الجريمة، وبعد اثبات الوقائع والتفاصيل التي رويتها، وهي لا تختلف عما حدث في الواقع، أمر الضابط بإعادتي إلى الحجز.. أستغرق التحقيق قرابة الساعة، وإثبات أقوالي في المحضر، فيما كانت في الحقيقة جريمتي ثابتة ومشهودة..

 

بعد إعادتي للحجز أطل عليّ من الباب أحد رجال القوات الشعبية اسمه عبد الوهاب عثمان والذي أنتقل من القبيطة إلى منطقة “الغول” الجنوبية في عهد مضى، وترجع أصوله إلى “القبيطة” الذي جاء منها هو وأخوه عبد الحميد، بل هما بني عم رفيقنا فريد محمد عثمان القباطي..

 

كانت طلته كملاك يقدم لي المساعدة دون طلب.. كسحابة مطر وغيث مستغيث.. رحمة قادمة من قدر يبالي ولا ينسى من يحب.. كيعقوب المحب لابنه يوسف.. كإبراهيم والد إسماعيل، ولكن دون سكين ولا فدية ولا أضحية.. بل أعطاني فراش وبطانية ربما أجتهد بتوفيرها..

 

كان عبدالوهاب يعمل في نفس المكان الذي يفصله عن الحجز أمتار قليلة.. أطل بابتسامته التي خففت عن كاهلي ثقلا لا يقوى على حمله من هم حديثوا سن.. ابتسامته منحتني الطمأنينة والسكينة التي كنت في أشد الحاجة إليها.. حديثه العذب جعلني أشعر أنني أعرفه من زمن طويل يزيد عن عمري القصير..

بعد ساعة شعرت بالإرهاق.. أحسست بالنوم يسبل ويرخي جفوني المنهكة، وذبول يثقل عيوني المرهقة.. استسلمتُ للنوم وغطّيت في سبات عميق.. استيقظت بعد ساعات فجأة!! نهضت وكأني مجنون، أو كأن عفريتا وقف فوق رأسي.. استغرقتني الدهشة والذهول وأنا أسأل: أين أنا؟! أين أنا؟! وبعد برهة جمعت أشتات وعيي المتطاير، واستعدت صورة الواقع، ووعيت أنني محبوسا، وأنني ارتكبت جريمة، وأن هناك مجني عليه مصاب، ربما يتهدده الموت..

 

وبعد صحو ونوم بدأت أتكيف مع ما أعيشه من حال.. عدت إلى النوم ثم نهضت بعد سويعات، وقد صرت مستوعبا وضعي وحالي الجديد، وربما بديتُ مستعدا للتكيف، وقد تلاشى بعض القلق الذي كان يجتاحني على نحو داهم في البداية..

 

أنطلق رفيق أخي سعيد عبد الولي من طور الباحة إلى القرية.. أبلغ أخي عمّا حدث.. حضر أخي من القرية إلى مركز طور الباحة في اليوم التالي، ومن حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة، وكان أخي محط احترام وتقدير المسؤولين في مركز المديرية ولاسيما محمد طاهر مأمور المركز، و “باعلي” المسؤول التنظيمي في المركز ، وأنني ما فتئت حدثا، ولهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانة أخي، ومع ذلك تم استدعائي وتوقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة، وفي إحداها تم توقيفي أنا والمصاب معا بعد أن شفي من إصابته، وتم حل القضية وإغلاق ملفها..

 

أما أمي فلم يصبها مكروه، ولكن أصابها الهلع والجزع، بعد أن علمت من بعض رفقائي الطلاب بما حدث، وكان مدير المستشفى أخ المصاب دكتورا يقدر المسؤولية، ويهتم بمرضاه، ولا يسئ ولا ينتقم..

 

إن ما حدث كان تهورا وطيشا وسوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، وكان شعوري بالغربة والاستفزاز المتكرر والشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنهم عصابة دفعتني إلى فعل ندمتُ بسببه وتعلمتُ منه..

 

ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين وعبد الفتاح اسماعيل.. وبعد فترة ربما أشهر صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا وذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء بما فيهم الرجل الطيب عبد الوهاب، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية، ومكانته كبيرة ومهابه عند المثقفين..

 

وبقي السؤال: لماذا السياسة تفسد العلاقة بين من نحبهم؟! هل هي الدنيا والسلطة، أم غياب العقل، وقلة الحكمة؟! هل هو حضور التهور والطيش، أم قلة التجربة..؟! وربما تعقدت الأسباب وتداخلت مع بعضها؟! لقد كان لدورات العنف الذي شهدها الجنوب نتائجها الكارثية التي أطاحت إحداهم تلو الأخر حتى تمكنت من الجميع، وأثقلت المجتمع بما لا يطاق، وشوهت ما كان يفترض أن يكون جميلا ومحل مثالا..

***

 

مستواي في الإعدادية

(6)

في المرحلة الإعدادية لم أكن متفوقا في دراستي، ولكن كان المستوى العام جيدا خلال سنوات الإعدادية الثلاث.. لم أفشل في أي مادة، ولكن بعض المواد كنت أنجح فيها بعد طلوع الروح.. كنت أميل للمواد الاجتماعية وأتفوق فيها، يليها مواد العلوم..

 

نتائج مواد الرياضيات كانت إجمالا في مستوى لابأس به، وإن صرت لاحقا على مستوى الواقع العملي فيما يخصني، ولمدة طويلة فاشلا فيها، واستصعب العد بعد المليون.. ربما أبدد المال، ولكن فيما لا أندم عليه.. فاشل بامتياز في مراكمة الثروة أو اكتناز الوفر، وفاشل أكثر في الاحتفاظ بالقرش الأبيض إلى اليوم الأسود..

 

ربما أجد نفسي كريما وأكثر منه أجد نفسي غير لئيم.. ربما في بعض المواطن أسيء التقدير وأرى القليل كثيرا.. لازلت أذكر حالما كنت قاضيا وأنا أقدّر أتعاب المحاسب القانوني أحمد سعيد الدهي، وقد زجرني بجملة أو سؤال وسط المحكمة، وكان على حق حيث قال لي: هل تريدني أعمل سُخرة؟! أدركت حينها قدر الخطل الذي وقعت فيه، وأنا أقدّر الاتعاب، وربما يرجع هذا في بعضه لقلة الخبرة فيما يخص تقدير الأتعاب، أو لنظرتي في استكثار المال حالما أقيسه بمقدار مرتبي..

 

التربية الوطنية أو تاريخ الثورة اليمنية ربما كانت لدي أحب من مادة التربية الإسلامية التي كانت قليلة الوزن في تراتبية المواد الدراسية في المقرر العام.. كنت أرى حفظ آية أظنك وأشق من إحداث عرصة في جبل صم.. حفظ قصيدة أيسر بمرات من حفظ سورة في مقرر دراسي.. لازلت مسكونا إلى اليوم بعقدة “الفاتحة” التي أشبعني أبي ضربا من أجل حفظها..

 

صارت قدرتي على الحفظ ضعيفة، أو صارت حافظتي واهنة.. داهم النسيان كثير مما حفظته بمشقة، وأدعي أيضا أن نعمة النسيان قد أهالت بترابها على الأحقاد والضغائن التي تثقل الكاهل وتشوه الروح بالقبح والدمامة..

 

ربما أثور وأقاوم وأتصدى للظلم واستبسل في مواجهته، ولا أستطيع أتسامح مع ظلم أو ظالم لازال يعترش الحق ويستبد عليه، ولكني أيضا أحاول ألتمس العذر للمخالف، ولا أقطع شعرة معاوية، وأتسامح حتى مع من ظلمني إن زال الظلم، أو تمت الاطاحة به أو بصاحبه.. أنحاز لقيم الحب والحرية والتسامح، أو هكذا أدعي، أو بالأحرى أحاول أن أكون..

 

اللغة العربية كانت تعجبني بعض موادها، وبعضها لازلتُ فيها رديئا وفاشلا إلى اليوم.. صرت حالة ميؤوسة في أن أكتب صفحة واحدة دون أخطاء في الإملاء والقواعد.. الإملاء والقواعد باتت عقدة أخرى تفرض نفسها على حياتي، وتعتور كثيرا مما أكتب، وتفسد عليّ ما يبدو ساحرا وجميلا، وأظنها سترافقني حتى الأجل..

مادة التاريخ في الإعدادية أكثر المواد التي كانت تعجبني، لأن مدرس المادة كان ملما بمادته، ولا يغادر الدرس إلا وقد نقله إلى أفهامنا كما يجب.. كان يشرح الدرس مليا ثم يملي علينا الدرس، ثم يعيده من خلال النقاش.. وبتكرار غير ممل، وكل ذلك كان يجري بتواضع جم، ومن دون ملل أو تثاقل..

 

كانت من أصعب المواد الدراسية التي واجهتها في سياق دراستي الإعدادية هي مادة الإنجليزي؛ لأن مدارس الجنوب كانت تدرِّسها من الصف الخامس، فيما مدارس الشمال كانت تدرسها من مستوى أول إعدادي، وعندما درست الفصل السادس في الشمال وانتقلت إلى الفصل الأول إعدادي في الجنوب، وجدت فجوة كبيرة واستصعاب شديد في فهمي لهذه المادة، حيث كانت قد فاتتني سنة من مادة الإنجليزي لم أدرسها في الشمال، فضلا عن الضعف السابق الذي رافقني في هذه المادة في الصف الخامس أثناء دراستي في مدرسة “شعب”، وهكذا صارت هذه الفجوة تكبر وتتسع في حياتي التعليمية اللاحقة حتى الجامعة.. بل وزاد الحال سوءا بعدها..

***

(7)

امتحان وفاجعة

في سنة ثالث اعدادي تم تعيين علي الخفيف مديراً عاما جديدا لمدرسة الشهيد نجيب وهو من أبناء الجنوب بعد أن غادرها المدير السابق للعمل في الشمال.

 

كان المدير الجديد طيبا وودوداً، وحالما كنتُ أعيش اجواء الامتحانات الوزارية، ولازالت ثلاث مقررات دراسية ينتظرني امتحانها، نقل إليّ مدير المدرسة الخبر الصادم، ولكن بالتقسيط الذي يجعلني أتجاوز عبور امتحانات تلك المقررات بكلفة نفسية أقل تحافظ على مستواي الدراسي في الامتحانات..

 

حاول المدير أن يبقي لديّ الأمل أن أخي أصيب في كمين، ولكنه متعافي، والإصابة ليست خطيرة فيما أخي في الحقيقة قد فارق الحياة.. أراد المدير من خلال نقل ذلك الخبر أن يجنبني أي صدمة تؤثر على وضعي النفسي في الامتحانات المتبقية لي، وأن لا يؤثر ما حدث على نتائج امتحانات تلك المقررات.. أراد أن يقطع أي مصادر أخرى ربما تصلني وتصيبني بإرباك شديد رغم ضيق تداول مقتل أخي.. وفي نفس الوقت قصد أن أتقبل الفاجعة تدرجيا، والحيلولة دون أن يسبب لي ما حدث انهيار محتمل، أو تداعيات نفسية كبيرة حالما أعرف..

 

لقد كان مدير المدرسة محقا وهو يحاول أن يقلل تأثير ما حدث على نفسيتي، وحتى لا يؤثر على نتائج امتحاناتي، وبنفس الوقت يهيئني للتصالح مع الحقيقة الصاعقة..

 

كانت الحقيقة هي تعرض أخي لكمين، وتم اسعافه إلى طور الباحة، وتقرر إسعافه إلى عدن بعد وصوله إلى المستشفى وإجراء بعض الاسعافات اللازمة.. ثم وافاه الأجل بنفس الليلة في الطريق قبل الوصول إلى عدن، ووارى جثمانه في مقبرة “العيدروس” بكريتر.. ألم أقل أن نصف حزني في عدن يا عدن.. من هذا الذي يقتلعني منك، وأحزاني مثل فرحي مثل حبي ضارب في حناياك وأعماقك يا عدن.

 

نجح مدير المدرسة في أن يجعلني أجتاز الامتحان بنجاح، ونجح أكثر في أن جعل ارتطامي بالحقيقة أقل وقعا وشدة..

 

اتممت امتحانات العام الأخير من المرحلة الإعدادية في طور الباحة، وتيقنت بعد حين وبالتدريج صحة خبر مقتل أخي، ومع ذلك ظل الوهم سلطان يساير ما ترغبه النفس وتهواه، وظل وهمي يرفض هذه الحقيقة الأكثر مرارة في حياتي..

 

كم كانت الفجيعة طامة؟! كيف لي أن أصدق الخبر؟!! من فرط التعلق لا نصدق الوقائع حتى وإن شهدناها بأم أعيننا.. إنه الحب والتعلق بمن نحب.

 

تجاوزت المرحلة الإعدادية، وأحرزت نتيجة السنة الثالثة فيها بنسبة نجاح 78% ورغم تواضع هذه النسبة إلا أنني كنت راضيا عنها، وبها انتقلت إلى دراسة المرحلة الثانوية في مدرسة “البروليتاريا” الواقعة في الطريق الفاصل بين محافظة عدن ولحج..

 

***

السلسلة الثامنة تتبع ..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى