مذكرات

أستاذي القدير عبد الله عبد الإله

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

كنتُ أعرف أن النجاح لا يكفي أن تكون على رأس فريق مجتهد وهاو ومتحمس في هيئة تحرير صحيفة.. لا يكفي أن تقرأ في مهنة الصحافة لتتقنها.. لا يكفي أن تكتب على نحو جميل لتتعلم مهنة الصحافة، بل حتى وإن كان لديك شهادة جامعية في نفس التخصص دون أن تمارسها وتكون محباً لها وشغوف بها.. الصحافة علم وفن ومهنة تحتاج لكثير من الاتقان والشغف والممارسة.

ربّما أتعلم سريعاً في مجال أهواه، وأكون محظوظاً أن أجد بجانبي أستاذ ماهر يتقن ما أحتاجه وأتعاطاه في المجال الذي وجدتُ نفسي في سدته.. أحتاج إلى أستاذ بجانبي يصقل ما أهواه، ويهتم بما أصنع، ويساعدني في إتقانه بمحبة غامرة.. أحتاج إلى صحفي مُجرّب، ومخضرم إن أمكن.. أحتاج إلى مستشار بمقام مدرسة، وقبلها إلى صحافة أحبّها وأجد نفسي بها.

طبعي الذي أظن أنني أنتمي أو أميل إليه، هو أن لا أقصي المنافسين والأقوياء وأهل الخبرة والدراية الذين بجانبي، بل تجدني أبحث عنهم.. لا أحسبها بأنانية وذاتية صغيرة.. أستشير كثيراً في معظم الأحيان دون أن أشعر بالنقص أو الحرج.. أستعين بالخبراء وأهل الدراية والمعرفة.. أنهل من خبراتهم ومعرفتهم.. أحتاج معي للأقوياء لأكون قوياً بهم أكثر.. أحتاج إلى مهارات أستعين بها لأحقق ما أروم من نجاح.. ربّما أستحضر في ذهني كثيراً تلك المقولة الحكمة لجون وليامز: “ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقًا؟”.

***

كان جميع هيئة التحرير هواة ومبدعين ومجتهدين.. ربما اعتبرتُ نفسي واحداً من الهواة.. جميعهم كان ليس فيهم غير صحفي متخصص واحد عمل في حقل الصحافة، كان مستشاراً للصحيفة التي أرأس تحريرها، وكثيراً ما يستشار، ومحرراً رئيسيا لأخبارها.. إنه الصحافي صاحب القلم الرشيق والسيال عبد الله عبد الإله.

الأستاذ عبد الله عبد الإله بدأ عمله الصحافي من أول درجة في السلم الوظيفي، و ترقّى درجة، درجة، ومن دون دعم قبيلة أو مركز سلطة أو نفوذ.. بدأ مشوار العمل الصحفي باكراً في صحيفة اليقظة العدنية، وفتاة الجزيرة، والمصير، ثم عامل مطبعي يصف الحروف الرصاصية في صحيفة 14 أكتوبر.. يعمل ليلاً حتى الصباح، ويذهب نهاراً إلى المدرسة.. زار سقطرى في أول رحلة صحافية في عام 1974، و سماها عذراء اليمن، و كتب عنها 28 حلقة في صحيفة 14 أكتوبر.

تحمّل مسؤولية نائب رئيس الدائرة الإعلامية في المكتب الخاص لرئيس الوزراء على ناصر محمد، ثم انتقل إلى الرئاسة كمدير عام للدائرة الإعلامية وسكرتير صحفي للرئيس على ناصر.. اسهم في تحقيق الوحدة.. صاغ بيانات القمم، وعُيّن مديراً للإدارة السياسية والعلاقات الخارجية بمكتب الرئاسة بصنعاء بعد الوحدة، ثم مستشاراً لا يستشار، وعضو في لجنة الدراسات والبحوث الاستراتيجية لينتهي به المطاف متقاعداً في العام 2007.

عاش من العام 1994 منقوص الحقوق، والدرجة، والراتب، والمستحق، لأنه رفض عرضاً مهيناً.. رفض أن يكتب مثل فلان.. رفض مقايضة الضباع، ورضي أن يقضي بقية عمره يعاني و يبحث عن ثمن العلاج .. إنها محنة اليمن وطغيان الضباع.

عرفته عن قرب .. كان إذا أمسكت أنامله القلم، تدفقت الأفكار، وشق النهر مجراه إلى منتهاه.. محترف في تحرير الخبر، وكتابة المقالة والخاطرة واللقطة الصحفية، ولديه حس صحفي حساس ومميز، وقدرة على التقاط الصور والمشاهد والأحداث، والتعامل معها بحرفية، وبمشاعر ونبل إنسان، بفطنة صحفي خبير ومحترف.. إنه أحد الجنود المجهولين، الذين ساعدوني وساندوني، وتعلمتُ منه أبجديات العمل الصحفي، ابتداء من الصورة واللقطة والخبر، مروراً بالحوار والاستطلاع، وانتهاء بالتحقيق الصحفي.

***

تعلّمتُ من محمد عبد الرب ناجي كيف أكون عملياً ومنجزاً، فيما تعلمتُ من عبد الله عبد الإله كيف أكون صحافياً وإنساناً في آن.. محمد عبد الرب ناجي رجل عملي وتنفيذي، لا يحب التنظير والسياسة، فيما عبد الله عبد الإله بحكم عمله الصحفي وموقعه، كان يتعذر أن يتنصل منها، وكفاه أنه مارسها بعفة وأخلاق، ونأى بنفسه عن الدماء والصراعات المسلحة التي تحولت إلى ثقوب سوداء التهمت خيرة رجال و كوادر و شباب اليمن.

الذين يبنون حياتهم طوبة طوبة جديرين بالاحترام والتقدير، ومحمد عبد الرب ناجي هو الآخر ترقى من موظف صغير في البريد، حتى وصل إلى مدير عام القوى البشرية في شركة “تليمن”.. اثنينهما وآخرين سآتي على ذكر بعضهم، وأتوقف عند بعضهم في مواضع ومحطات قادمة، جميعهم ساعدوني وساندوني لأنال استحقاق ما كنتُ أصل إليه دونهم.

هؤلاء وغيرهم بنو حياتهم طوبة على طوبة، وحجر على حجر، و تدرّجوا في السلك الوظيفي درجة درجة.. لا حرق للمراحل، ولا دعوة الوالدين، ولا مركز نفوذ داعم، ولا إنزال مظلّي من السماء كما يحدث اليوم حيال الترقيات التي تم الاستيلاء عليها كغنيمة حرب، والمواقع الإدارية والوظيفية، التي اغتصبها واستباحها الفساد المدعوم بالغلبة، والعصبيات على مختلف أنواعها، وهدمت بتلك الاستباحة، مبدأ المواطنة، وجرّفت إلى الجحيم معها معايير وشروط الوظيفة العامة ومعها تم تجريف الوطن.

***

الحقيقة لم أفِ مع ناجي وعبد الإله، و أنا الوفي أو هكذا أدّعي.. ربما السبب “العين بصيرة و اليد قصيرة”، و أسباب أخرى كثيرة، منها التيه في الزحام، والغرق في الانشغال، والشرود الطويل الذي يتملكني، وطبع النسيان غير الجاحد.. كم أشعر إن مثلي بحاجة إلى مدير علاقات أو مراسيم، أو حتى شاويش حبس، يأمرني بما يجب وينبغي أن أفعله في هذا المقام، بل ويضع القيد على اليدين، ويوصلني إليهما مصحوباً كل أسبوع.

حاولتُ أن أسدي لمحمد عبد الرب ناجي في عهد “الأنصار” خدمة في حقوق تقاعده المغتصبة هو وزملائه، والمدعومة بأحكام نهائية، واجبة النفاذ، ولكن الأنصار أكثر من خيبوا الآمال.. من السيء أن يرحل المرء مظلوماً دون عدل أو إنصاف، ونفشل في مساعدته، ونعجز عن أن نسدي له يد عون أو رد جميل وعرفان.

صديقي عبد الله عاني من مرض القلب، منذ سنوات طوال.. طلب مني يوما أن أنعيه، وهو على قيد الحياة، فقلت له: أنت مت، و أنا أرثيك، وأجعل الحجارة تبكي عليك، فقهقهنا حتى ضحكت من ضحكنا الجدران و أحجارها.

و اليوم لازال قلبه المتعب يخفق و يدق بعد أكثر من عشرين عام من مغالبة المرض، بعد أن كنت أظنه لن يطول به المقام عام أو اثنين، أطال الله عمره ونبله .. الإنسان صاحب القلب الكبير يستحق أن يعيش أكثر من مائة عام.. وها أنا أنعيه اليوم وهو حياً، و نعيه حياً خير من آلاف المراثي.. أنعيه حياً وأتمنى له دوام الصحة و العافية.

اختلفتُ يوماً معه في السياسة ـ قبح الله وجهها ـ حتى أنني ألغيتُ صداقته في “الفيس بوك” ليس جحوداً أو نكراناً للجميل، ولكن حتّى لا أوجع قلبه المريض والموجوع، و زاد الله يبتليه بما هو أخبث.. إنه سرطان الدم. وكما غالب في أمسه الضباع، يغالب اليوم الوجع والمرض والجحود و النكران.

بقي الود والاحترام بيننا ما بقينا، و صار خلافنا خلاف الكبار، و الأيام نتعلم منها ونستزيد، وكل منّا محكوم بضمير هو دليله والبوصلة، وسنبقى رفقاء ومحبين إلى آخر العمر، حتى وإن كان وصالنا عاثر و اللقاء قليل.

عبد الله عبد الإله كيف أنساه.. كيف أنسى دمعة الفرح التي برقت وطفرت من عينيه وعلق بعضها على رمشه، وقلبه النبيل صرة فرح كاد يطير، وابتسامة محب عصيّة على النسيان، واحتضان حميمي نادر لا تجروء على نسيانه الأيام والوجدان والذاكرة .. بارك فوزي واحتفى به أكثر منّي.. كيف أنسى زوجته الجندي المجهول في تحقيق ما أروم.. كيف أنسى من لازمني في المشفى بعد أن استهدف الجناة رأسي المتصلب بالحق والعناد.. كيف أنساه وهو من أعطاني يوما فسحة صوفية مع الملكوت لأسجل رقما قياسياً في حياتي المهدرة.. يا إلهي كم أنت عظيم.

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى