في حضرة “الخضر”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
“الخضر ولي الله”.. منعني والدي من زيارته عندما كنتُ طفلاً.. كانت يومها تلك الزيارة بالنسبة لي حلماً كبيراً وذو شأن.. حلم أكبر من زيارة “مدينة الضباب” في عهدنا هذا، بل هو حلم يشبه الصعود إلى القمر، أو زيارة عرشاً فوق قبة الكون.
كم هو سيء أن يتم منعك وأنت طفل من تحقيق رجاء لطالما ظل يمعن في خيالك، وانتظرت تحقيق تلك الأمنية عام وعامين وثلاثة، فخابت الوعود وخاب انتظارك الذي طال، وكانت كل خيبة تمر أكبر من تلك التي قبلها..
لكم ابتلعت الخيبات حسن ظنّي، وطوته بقسوة ودون رجعة، وخاب رجائي بتكرار وإمعان، وإذا ما تحقق حلم، فلا يتحقق ولا يأتي إلا بعد كد ومشقّة، وأكثر منه بعد حين قد يطول، أو قدر يأتي أحياناً بعد يأس ونسيان.
كنتُ أسمع في طفولتي عن حكايات “الخضر” والخوارق والمعجزات التي تنتشر، ويتناقلها الأطفال الصغار، ولطالما تقت لزيارة “مولده”، ولكن يومها صدّني المنع الذي تحوّل أمامي إلى مستحيل.. كانت الموانع أكبر منّي، وتتصدّى لأمنيتي بتكرار.. كان أقراني يحضرون “مولده” ويتناقلون أخباره ببهجة، إلا أنا اللابس حسرتي، والمنبعج بحزني المكتظ داخلي، والمملوء بخيبة قدري ورجائي الذي لا يوجد من يلبيه.
صلّيتُ كثيراً ودعيت الله أكثر.. من أجل ماذا؟!! من أجل زيارة “مولد الخضر”.. لقد صلّيت ألف صلاة، ولكن كان المنع أقوى، والصد صادم، وكنت أشعر أن مصابي جلل، وخيبتي كبيرة وعارمة.
منعني والدي من حضور “مولده” ومزاره الذي كان في منطقة “الرماء”.. ربطني إلى جذع مغروس في دكانه الصغير من الصباح إلى الظهيرة، ليفِّوت موعد تلك المناسبة التي تأتي مرة واحدة، وليوم واحد، في كل عام، وقد انتظرت هذه الزيارة عام بعد عام.. أحسستُ إن الحياة والموت سيّان.. قد يموت الانسان في سجنه كما تقول نوال السعداوي من الانتظار، والذي شبهه محمود درويش بالجلوس على صفيح ساخن.
عندما شاهد والدي إصراري المتشبث وعزمي على الذهاب، ولاحظ في وجهي التحدّي المغامر، ضربني بقسوة بعد أن ربطني إلى ذلك الجذع، فيما كنتُ أنا أقاوم هذا الإرغام بشراسة.. حاولتُ بعدها الانتحار احتجاجاً على هذا المنع الذي كان مقروناً بالغلظة والقسوة والشدّة.
يا لهذه الأقدار وما تفسده وما تصلحه، عندما يدور الفلك ويكمل الزمن دورته.. مصادفات، ومفارقات، ومعاودة تذكير، بعد أن أوغل العمر في التيه، ونسينا أو شارفنا على النسيان.. طفولة بائسة، وحرمان أشد، ثم ابدال وعوض، بعد أن نسينا أو كاد النسيان يطوي هذه وتلك.. كل شيء كما قال “دوستويفسكي” يمكن أن يقع للإنسان، حتى الأمور التي كان لا يتصورها في الحلم.
ما كان مُوصداً في وجهي وأنا طفل، صار وقد تجاوز عمري الأربعين مفتوحاً أمامي على مصرعيه.. بتُ أشعر أن “الخضر” صار حاضراً معي .. يسير أمامي وجانبي.. يساندني ويأخذ بيدي إلى حيث أريد.. ألم يقل سقراط جميع أرواح البشر خالدة، ولكن أرواح الصالحين خالدة ومباركة.
***
بعد أن ترشحتُ للانتخابات النيابية، اكتشفتُ أن للخضر في مناطقنا مزارين لا مزار واحد، أحدهما يقع في جبل الخضر غرب “الرماء” وهو المزار الرئيسي الذي يقام له جمعاً سنوياً. والمزار الثاني في شماريخ جبال “الدخينة” أقصى شرق القبيطة.. ثم عرفتُ لاحقاً أن للخضر مزارات عديدة في القبيطة، وأغلبها في مناطق جبلية مرتفعة، ومنها مزار شرق الرماء باتجاه “عراصم”، ومزار شرق قرية “عراصم” اقصى جنوب شرق القبيطة، ومزار جنوب قرية “نخيلة”، ومزار في قرية” المواهبة”.. الحقيقة لا أدري ما سر كل هذه المزارات لهذا الرجل في مناطقنا على خلاف غيره.. الشائع في الوعي الشعبي أن الخضر رجل صالح لم يمت، وهو يسوح في أرض الله الفسيحة، بل ويظهر أحياناً لبعض الناس في هيئة رجل صالح.
لا أدري أي مصادفة جمعت ثلاثة في يوم.. يا ترى من حدد موعد المهرجان في منطقة “الرمأ”؟!! وعلى علوه قليلاً، وفي نفس اليوم “مولد الخضر”..؟! وفي المساء حضرة الخضر في “الدخينة” .. ثلاث اجتمعت، والمعروف أن الصدف لا تجتمع إلا بمستحيل، وكأن للخضر فيها يداً ومعجزة، أو أن الخضر قد ألهم صديقي محمد فريد ومن إليه ليضعوا ذلك الترتيب الذي بدأ قوياً في مطلع حملة الدعاية الانتخابية، وأتت أُكلها، وساهمت في تحقيق فوزاً أروم.
أقمنا مهرجان “الرمأ”، وكان ناجحاً وموفقاً، ثم اتجهنا بعد انتهائه إلى “مولد الخضر” في نفس منطقة “الرمأ”.. التقينا بالناس هناك .. تحدثنا معهم.. صلنا وجلنا في الردهات والمزار والجوانب، وما أحيط به من أمكنه.. كان مشهد المعترك الذي عشته من أجل حضور “مولد الخضر” و أنا طفلاً ماثلاً أمامي وساطعاً وكأنني أراه مرة أخرى.. كنتُ كأنني أحقق أمنية قديمة تقادمت عليها السنين، وحالت الموانع دون تحقيقها وأنا طفل.. حلم قديم ما كنتُ أظن إن العمر سيمتد بي إلى ذلك اليوم، الذي وصلتُ فيه، لسبب مختلف.
بمعية فريقي الانتخابي محمد فريد، ومانع على مانع وأنس دماج وآخرين، لا تحضرني الآن أسماؤهم، انتقلنا لمركز “ج” في مدرسة 27 ابريل في “الدخينة”، وصلنا وقت المغرب أو بعد المغرب بقليل، تركنا السيارة بعد أن أوصلتنا إلى آخر الطريق السالك، وعلينا بعدها أن نصعد إلى “الخضر” في القمة راجلين.
***
يا إلهي.. ماذا تصنع أيها القدر؟! أمعقول ألتقي في حضرة الخضر مرتين وفي يوم واحد!! أهذا هو الخضر الذي كدتُ يوماً أنتحر من أجل زيارته، وأنا طفل لا زلت دون الـ 14 عام أو يقارب!! أي صدفة هذه التي جعلت ما كان مستحيل يوماً، يصير طي اليد والبنان، ومرتين في أقل من يوم!! يا إلهي لمفارقة الدهشة، وصدفة الأقدار عندما ترضى عنك، وتمنحك الحظ واشراقة الأمل.
كانت المسافة مُنهكة لمن يريد القمة، وكأن “الخضر” أيضاً يختبر محبيه.. هناك روح “الخضر” تنتظرنا في المزار، وتمتحن حبّنا وتختبر تعلُّقنا به.. كنّا نشعر أننا نصعد ونتجه نحو السماء بسبب العلو الشاهق .. صعدنا على الأقدام إلى القمّة، نغالب الشواهق ونعتليها.
وصلنا إلى مزار “الخضر”.. مسجد صغير أبيض يعمم جبل “المحرقة” الذي يطل على بعض مناطق “الصبيحة شرقاً ” كـ “العند” و “وادي ذر” و غيرها، ويطل على “وادي حدابة” غرباً وشمالاً، و خلفك “الدخينة” و“بني حماد” و“قنقنان” و“نخيلة” و“ثوجان”.
تبدو ليلاً للناظر من أسفل، و أنت تضيء المكان على الشاهق، كأنك نجمة معلقة في السماء.. تبدو أمام نفسك من نفس المكان، وكأنك نجمة تسكن في زاوية من حنايا مجرَّة درب التبانة التي تحيط بك.. وربما تبدو من هذا العلو الذي يبدو خرافياً وكأنك تسود الأرض ومحيطها، وتعتلي عرش عظيم.
وجدنا هناك أغلب وجاهات منطقة “الدخينة” و “بني حماد” المجاورة .. ناس أنقياء كالبلور.. لازال كثير منهم على الفطرة والسليقة.. عامرين بالصدق والوفاء والتلقائية.. سماهم الأولون بـ ”زهرة القبيطة” وصفاً لهم، وعرفاناً بمكانتهم.. التقينا بهم في محيط الجامع وداخله.. تحدثنا معهم في حضرة روح “الخضر”، ونسمات الهواء العليل، وعلى ضوء الشموع الهادئة.
حضر هذا اللقاء صالح سيلان، وفارع محمد سعيد، ومحمد علي التالول، وشداد عبدالجليل، ومعهم سيف مدهش، رفيق وزميل أخي علي وهو أحد الأبطال المشاركين في فك حصار السبعين يوم عن صنعاء، وآخرين ممن لا تحضرني الآن أسمائهم، والذين كان ردهم كافياً وشافياً.. وعد وعهد قطعوه على أنفسهم في المسجد توجوه بالإخلاص والوفاء.. وعد أثلج الصدر.. رفع معنوياتي ومعنويات رفاقي في الفريق الانتخابي، إلى مقام ما نحن عليه من علو وشاهق.. نجاح وتجاوب لم أكن أتوقعه.
لم يكن أكثر وجهاء “بني حماد” و “الدخينة” يعرفوني إلا لماماً، أو من خلال نشاطي في جمعية التعاون الخيرية لمديرية القبيطة.. لكن كان أغلب الوجهاء هناك يعرفون أخي علي سيف حاشد الذي كان فوق أنهم يعرفونه، يحبونه كثيراً، وبعضهم كانوا له رفاق.. كان أيضاً للرائع و الكبير مانع علي مانع معرفة قديمة بعراقة الأب والجد، نار على نار، ونار على علم.
في “جامع الخضر” ومزاره، نهض الحاج فارع محمد سعيد وطلب من جميع الوجاهات ان يضعوا يدهم في يدي كعهد للوقوف معي، ومساندتي.. أحسست لحظتها أن روح الخضر فوقنا ترفرف وتبارك عهدنا ومسعانا.. جو مشحون بفيض المشاعر الحميمية التي غمرتنا به كثافة اللحظة، ومباركة روح “الخضر”.
***
يوم الاقتراع زرتُ “بني حماد” بعد الظهيرة، والتقيتُ بشيخهم الشهم قائد صالح حازم، وكنتُ مستاء بسبب تراخي حشد النساء إلى مركز الاقتراع.. كنتُ أعرف ماذا يعني تحييد المرأة، وضياع الصوت أو فقدانه في المنافسة الانتخابية.. كنتُ حريصاً على الصوت الواحد.. وأدرك أن أي خطأ أو اهمال أو تراخي، يمكن أن يؤدي إلى الخسارة والفشل.. أذكر أن عتابي معه كان مؤثراً على النفوس، فما كان منه إلا أن خرج بنفسه لإقناع النساء بضرورة المشاركة في الاقتراع، وبدأ توافدهن بكثافة على صندوق الاقتراع من الساعة الرابعة عصراً حتى انتهاء موعد الاقتراع في المساء.. حصلتُ من هذا المركز “الدخينة وبني حماد” ما يزيد عن نسبة الـ 80 % من أصوت الناخبين.. وفوا بالعهد و برّوا بما وعدوا.. و أنا وفياً بعهدي إلى اليوم نحو شعبنا واليمن كلها، ولا زال برنامجي الانتخابي ومواقفي الكثيرة شاهدة، رغم ما نشهده من حروب ضروسة، وكراهية باذخة، وطوفان عارم.. ولازلتُ ذلك الرجل الذي عرفوه ذات يوم.
***