مذكرات

عِنادٌ وسلطة! .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي

 (10)

عِنادٌ وسلطة!

أحمد سيف حاشد

في صغري كنت مُغرماً بأكل التُّراب.. يا إلهي كم كان التراب شهيّا ولذيذَ المَذاق!! والأكثر لذاذةً أنْ أفعلَ هذا في السِّر والخفية، بعيدا عن أعين أمي.. كانت أمي ما أن تكتشف الأمر، فتسارع إلى ضربي حتى قبل أن تُخرِجَ التراب من فمي، وأحيانا يتأخر العقاب إلى لحظة انكشافي بعد حين لا يطول.. ومع ذلك وما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب..

“السُّلطة السياسية” لا تشبه أمي بكلِّ تأكيد.. فما فعلَتْه أمي كان دون شكٍ بدافعِ الحبِّ الجَمْ لضناها الذي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف الهلع على صحته التي تأثرها قطعا على صحتها.. أمّا ما تفعله “السُّلطة السياسية” فلا علاقةَ له بأيِّ حب، ولا صلةَ له بالصحة، أو ربما بما هو حميد، بل يتم بدوافع الإخضاع والتَّدجين، وربما الاستعباد.. إنّ المقارنة أحيانا تكون ظالمة، وربّما تبدو في عَتهِها إهدارا للعقل، ولاسيّما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خُرافي ومهول..

ربما يبدو المتشابه بين أمي و”السلطة السياسية”، في استخدام القمع.. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة، ومهما بلغنا من سلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخٌلق العظيم.. فيما “السلطة” تقمع الشعب وتستبدُّه.. صحيح أن كلا منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن “السلطة السياسية” التي بدون مشروعية قد جاءت عن طريق الغلبة والاغتصاب، أو بالمخاتلة والتحايل.. أما أمّي فمشروعيتها من مشروعية وجودي في المقام الأول.. غير أنّ السؤال الأهم: لماذا نتمرّد على الأم، وهي الأحق بالطاعة والإذعان، ولا نتمرد على “السلطة” ـ أي “سلطة” ـ طالما هي ظالمة ومستبدة؟!!

صحيح أنّ أمي و”السلطة” تشتركان في وجه من الجهل، وهو قياس مع الفارق، ولكن جهل أمي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على “السلطة” أولا؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل وتقوضه، فما البال و”السلطة” تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضا في المدارس والجامعات، وتعوِّل عليه في سياساتها إلى حدٍّ بعيد..

“السُّلطة” تعتقد أنّ القمعَ هو الخّيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائجَ فوريّة، ولكنّ كثيرا ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيّبة للآمال، والأسوأ أنّ “السلطة” تُعاند وتُوغِل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقرُّ بما تقترفه من أخطاء، إلّا بعد أن تكون قد دفعت كلفةً أكبرَ من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه..

***

تبالغ “السُّلطة السياسية” وجماعتها الدينيَّة الموغِل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته، بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمَد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان الحفاظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع، وباسم الأصالة والعيب يجري التحصين والتأكيد على الماضي، وعلى كل ما هو بائد ومتخلّف ومُهترئ، ويكون ذلك على حساب المستقبل الّذي نروم..

تعيش “السلطة” وجماعتها الدينية حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فجٍ مع ذاتها، حيث تتزمّت في أخلاقها، وتُمارسُ عُقَدها على المجتمع، وتتشدّد حيالَ التفاصيل الصغيرة، فتقمع المرأة الّتي لا ترتدي حجابا، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير الذي تعتبره انفلاتا سحيقا، وسقوطا أخلاقيا مريعا، وبالتالي تتحول السلطة في أحد وجوهها إلى شرطة آداب حازمة حيال القضايا التي يتبناها تزمتها، مثل موقفها من حقوق المرأة، وحريّاتها، والاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة رؤوسهم، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل “الحرب الناعمة” التي تُدرج فيها كلَّ ما يروق لها، أو تريد قمعَه وتحريمَه وتجريمَه تحتَ ذلك العنوان غير المُنضبط..

وبالمقابل تتخلَّى تلك “السلطة” وعلى نحوٍ صارخ، عن مسؤوليَّاتِها حيالَ مواطنيها فيما هو أهم، مثل التخلي عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم تأمين الصِّحةِ لمواطنيها، والَّتخلِّي عن التزاماتِها حيالَ مُعظمِ الخدمات أو الحقوق، ومنها التعليم فضلا عن الرُّقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه..

الاحتشام لدى سُلطةِ الجماعة الدينيَّةِ ليس صناعةَ وعي، ولكنَّها شكليات تكرِّسُها وتتعاطى معها بصرامة.. خيمةٌ سوداء، ثقيلةٌ وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبْتٌ وتضْييق، وإعادة إنتاج نفايات الفكر، والتصوُّرات البالية، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاؤها على كاهل المرأة ومحاصرتها بها..

وتُعتبر السُّلطةُ المأزورة بالواقع الظلامي الثقيل، إنّ الوِصايةَ على أخلاق المجتمع، والتَّضييق على الحريَّات الشخصيةِ والعامة من أولويَّاتها ومُبرِّرات وجودِها، فيما هي تتخلَّى في المُقابل وبالتقسيط أو نظام الدُّفَع، عن كل المسؤوليات التي كان يتعيَّن عليها النهوضُ بها، وهي من صميم عملها وواجباتها..

وهكذا تجد “السُّلطة” وجماعتها تتحول إلى شُرطة آداب، تحمي “الأخلاق” وتفرض وصايتها على الناس باسم المقدس، بدلا من خدمة شعبها، وتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والعلمي..

***

الواقع مشوّهٌ وموبُوءٌ بأمراضنا، وعُقدنا، وعنادنا المدمِّر للآخر وللذات.. عنادا بدأ معنا منذ نعومة أظفارنا، وكبُر معنا، وربّما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر – إن بلغناه – كما أنَّ التربيةَ غير السويَّة في مجتمعنا، تبدأ معنا من الحضانة، وتستمرُّ رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة، حتى تبلغَ العظمَ والصميم، ويتعدَّى أذاها من الشَّخص إلى المجتمع.. سلطة جماعة تحتقر الأغنية، وتتهم الشعر، حتى وإنْ تصالح فيهما الإنسان مع نفسه، بل وتحوُّله باتهامها إلى شيطان، واجبٌ عليها اجتثاثه وعيا وممارسة، حتى وإن كان زاهدا..

توغل “السُّلطة” في عنادها عندما تحتشد كلُّها، وما لديها من أجهزةٍ ومالٍ، ونفوذٍ، وإعلام، ووسائلَ قمعٍ في ممارسة إخضاع أسرة بسيطة مثل أسرة “إقبال الحكيمي”، لمجرد أنّ “إقبال” وأسرتها قرروا – يوماً – المطالبة بوقف الجرائم التي تُرتَكبُ ضِدَّهم من قبل رجال “السلطة”، وفضح ما تمارسه من طغيان، ومطالبتهم بوقف تلك الجرائم، ومقاومة الظلم الواقع عليها وعلى الناس.. وتُوغِلُ السُّلطةُ بمزيدٍ من العِنادِ وتلفيقِ التُّهمِ ضدَّ أسرةِ “إقبال” وتزجُّ بها في سجونها، بل وتتعدى على كلِّ من يساعدهم أيضا؛ لتُداري جرائمها الفِجاج، وتحول دون كشفها، وهو عناد أخرق منها، وغير مسؤول، سيتكفل الزمن بكشف ما يُدارى، وإسقاط عنادها، ومعه كل سياسات التّدجين والإخضاع التي تمارسها بعنفوان..

إنّ العناد الّذي نكتسبه، أو الذي نتطبًّعُ عليه، يمكن أن يتحوّل إلى قوَّةٍ تدميريَّةٍ تُهلك المُعاند نفسَه، وتُهلك من حوله، وربّما تمتدُّ آثارُه إلى المجتمع.. الانحراف بالعناد يدمِّر الآخر ويدمِّر الذَّات.. يدمِّرُ المجتمع ويدمِّر صاحبَه أيضا.. كما أنّ الاعتماد على سياسة القمع والإيغال والعناد فيها، لن يأتي إلّا بكلِّ ما هو بائتٌ ومشوّهٌ وغيرُ سوي..

إن أخطأتَ في البيت تُضرب، وإن أخطأتَ في المدرسةِ تُضرب، بل إنَّ الضربَ هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثرُ من هذا أنّ السّياسةَ العقابيَّةَ في تشريعاتِنا المثقلةِ بالوَجعِ والرُّكام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله؛ ليندمج في المجتمع، بل تقوم في الغالب على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.

من الأجدى والأنفع أن نحوِّل عنادَنا إلى تحدٍ يُنتجُ طاقةً خلّاقةً كبيرة ومبدعة، تُثري العلم والمعرفة، بما يخدم الناس والعالم خيراً وفضيلة ورخاء.. كثيرٌ من العلماء المخترعين والمكتشفين، وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحوٍ خلّاقٍ في خدمة الناس والبشريَّة؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثيرٌ من مجرمي التاريخ وسفاحيه – بسبب عنادهم وتصلب رأيهم – أهلكوا النَّسلَ والضِّرعَ بحروبهم .. أهلكوا أنفسَهم وشعوبَهم..

أما أنا فأحاول أن أحوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجِّل لديَّ بعضَ حضوره، إلى طاقة خلَّاقة وموقف مساندٍ للمظلومين، والدِّفاعِ عن حقوقهم المنتهكة، والتّصدِّي للسُّلطةِ الَّتي تعمَدُ إلى قهرهم وإذلالهم، وتدجينهم، وإخضاعهم لها ولجبروتها.. أو هكذا أزعم.

***

يتبع.. 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى