(7)
هدية سويسرية
أحمد سيف حاشد
كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوما استثنائيا فريدا لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت.. كنت أشعر أن فرحتي يومها تكفي أن تغمر الكون كله، وتفيض على كل متسع في أطرافه وأرجائه البعيدة التي لا يعرفها علم ولا نظر.. كنت أشعر إنه فرح يعدل الحزن كله، بل ويميحه بغسيل ومسحوق يزيل الكلس والصدأ وما حجّره الزمن المتقادم والبعيد..
كانت فرحتي كبيرة وكثيرة لا متسعا لها ولا قدر.. لا عد لها ولا حصر.. أكبر وأكثر من فرحة تائب نال مناة بعد منية، ومن راهب ظفر بجنة الرب التي لطالما عاش من أجلها شظف العيش وضيق اليد وضنك الحال، وأنكر حقه في الحياة لينالها في دار ثانية.. فرحة الذي صبر وجالد حتى نال مناه بمنيّه..
يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من “إنجلترا” ساعة “أورنت”.. كان وقع هديته في النفس وقع الدهشة التي لا توصف، وأثرها في النفس والذاكرة حيا لا يزول إلا بزوالها..
بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي أبي طفره تكنولوجية.. ساعتي تعمل يدويا بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوما وليلة، فيما ساعة أبي تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: “تمشي على الدم” وهو أمر لطالما كان يحيرني ويثير تساؤلاتي!!
يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والتمنّي.. أنا الطفل الذي لطالما تمنّى يوما ساعة من ورق أو بلاستيك، فخاب مناه، ولم ينل ما تمناه، وحصد مرارة وحسرة، فعوّض تمنّيه أن رسم خربشة ساعة على معصمه، واكتفاء بها ليصنع منها سعادته، وإن كانت مجرد وهم أو سراب..
يا إلهي.. كيف احتوي فرحتي، وقد وجدت ما هو أكثر من الحلم والتمنّي.. ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، حلم بعيد المنال، بل هو أبعد عليّ من المستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر مرة في الالف.. شيء لا يصدّق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحول قلبي إلى صرة فرح يطير إلى السموات البعاد.. منطاد ملون يحلِّق في البعيد.. يصعد للسماء بزهو وانتشاء منقطع النظير..
أنقصتُ من طول سلسها الفضي أكثر من نصفه لتمسك جيدا على معصمي المنهك.. كنت أرى الكون كله معلقا في يدي النحيلة.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي.. فرحة تبلغ حد البكاء.. فرحة عابرة للخيال، وكل ما هو معروف ومعتاد..
ليلتها لم أنام.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق وأخرى كعريس.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم وتلك الليلة البهيجة.. كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة وتأسر العيون المليّة.. جاذبة وأخاذه تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى ما بين النجوم ، بل وتعبر بي إلى تخوم الكون..
كان صوتها في سكوني “تيك تيك” يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس منتصر على جيش عرمرم.. صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. قيثارة فنان غجري يستعرض ابداعه أمام من يحب.. عاشق بلغ فيه العشق ذروته العليّة.. كنت اسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبها والمبهور بها حد الدهشة والذهول..
كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها معزوفة أو وجود إلا من باب المجاز ..
تقلّبني الفرحة على فراشي يمنا ويسرا، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقي حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. اتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته الأكثر جمالا في ضفاف نهر جميل.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه..
اجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فنية وأخرى عما بلغه الليل من مدى نحو الصباح.. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ مني فرحتي إلاّ غفوة قليلة قرب الصباح.. وكانت غفوة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة نبي على أرجوحة السماء بين الأكوان البعيدة..
وفي الصباح استعجلت النهوض.. كنت شبيها للصباح والضياء.. كنت أرى العجب العجاب يحيط بمعصم يدي النحيلة المتوجة بتاج ملك، أجلُّ من تاج هرقل وأعظم من تاج كسرى.. كنت أشعر أنني قد صرت مركز الكون، وأن الكون كله يزف فرحتي..
تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل الفرح الكبير..
وفيما أنا اليوم أتخيل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدا لي جهاز “إيباد” أو “لابتوب” أو تلفون مطور؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقا في فرحتي دون ملل أو انقطاع أو فكاك.. كانت فرحتنا في تلك الأيام تختلف عن أفرح اليوم التي لا تدوم..
.. يتبع
***
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة احمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page