طيران بلا اجنحة .. فيروس “الحصبة”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
بعد أن أستطاع أبي أن يَلُمَّ شملَنا تحت سقفٍ واحد في عدن، ويُلملِمَ أشتات أسرتنا الصغيرة بمسكن صغير في “دار سعد”، ويؤينا إليه، محاطين بقْدر من السّكينة والدَّعة التي نبحث عنها، دخلت علينا الحصْبةُ بدمامتِها، وما تحمِلهُ من بشاعةٍ وافتراس، أو هكذا بات الأمر في المخيِّلة.
مرضتُ بالحصْبة.. كان مرضُ الحصْبةِ ينتشر ويفتِكُ بالأطفال، الحصْبةُ فيروس “انتقالي” حاد ومُعدٍ يُصيبُ الأطفال، ويسبّب لهم مضاعفاتٍ خطيرةٍ في بعض الأحيان.
كان مرضُ الحصْبةِ أكثرَ الأمراضِ انتشاراً في سِنِّ الطفولة، وبحسب المصادر من أعراضه ارتفاعٌ في درجةِ الحرارة مصحوبٌ برشَحٍ وسُعال، ورمد، وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم، ورغم اكتشاف لُقاح الحصبة في ستينيّات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوّض هذا المرض، ويصيّره نادراً إلا في بداية التسعينيّات من القرن الماضي.
غير أن ما يؤسف له اليوم، أن يعود هذا الفيروس إلى اليمن على نحو أشد فتكاً وضراوةً، ونحن نعيش عهدها المزري الذي بات أثقل مما يحتمل. والأغرب ما جرى من تحريض صفيق وفج على منع التعاطي مع لقاحه، رغم العدد الهائل من الإصابات، وعشرات الآلاف من الضحايا.
لقد كانت أوّلُ معركةٍ خُضتُها مع هذا الفيروس القاتل في عدن، حيث هاجمني باشتهاء وإصرار، حتى كاد ينال منّي كل منال.. ما اطول الليل علينا، وكم كان النهار طويل..!! الموت يتهدَّدُ حياتي، والوقت يمر على أمّي وأبي بطيئاً حتى ظنّناه ساكناً، ولن يغادر بيتنا قبل أن يقبض الفيروس روحي المنهكة.
الوالدان يبذلان ما في الوسع وأكثر منه، من أجل منحي مزيداً من الصمود في وجه هذا الفيروس الدميم.. يستعجلانه على المغادرة دون غنيمة روح طفل.. يبذلان كل حيله، ويفعلان ما تأتَّى وأمكن ليجتاز ذروته، ويتجاوز المدة الأقصى والمُستغرقة لجزعته.. كم كان هذا المرض الفيروسي قاتلاً وقاسياً ومشبعاً باللؤم..!
عيون أمي وأبي تتوسل إلى الله بإشفاق يفطر القلب.. تدعوه برجاء لا حد له أن يحفظني لهما قرّة عين.. الانتظار على أوجّه في أن تمنُّ لهما السماء بأمل بعد يأس أقترب، ونجاة بعد أن كاد أوان الحياة يفوت.. كلُّ يوم يمُرُّ وأنا ما أزال على قيد الحياة، كان يعني لأبي وأمي معجزةً، ورُبّما لغريزتي المتشبثة بالبقاء، صمود عنيد في مواجهة الموت الممطوط بالعذاب، واجتراح بطولة على مرض يتَّسعُ وينتشر.
المرض يكز على أسنانه، ويفتك بالطفولة يميناً وشمالاً، دون مراعاة أو اكتراث.. فواجع متلاحقة تتكرر في اليوم الواحد، وأحياناً في البيت الواحد تتكرر عدّة مرّات، خلال فترة وجيزة.. فيروس موت تبدو النجاة منه معجزة، حيث لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهيه.
غالبتُ مرض الحصْبة، وقوِيْتُ على المقاومةِ والصُّمود، بفضل بعض النصائح التي أسْدَتْها جارتُنا لأمِّي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو مُعدِمة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك.
استفادت أمِّي من نصائح جارتها الّتي كان لديها بعضُ الدِّرايةِ بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل الّتي باستطاعتها أن تخفِّفَ من وحشيَّة وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أنْ يضاعِفَ الحالة ويفاقِمَها، وهو المُساند الأول للمرض، وربّما يلعبُ دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إنْ لم يُحتطْ له.
تضافرت أسباب الحياة، وسندت بعضها بعضاً في وجه فيروس هذا المرض، فانتصرتُ بعد شدّة على فيروس الموت المتربص بي تحت الجلد وأغوار الجسد، وتعافيتُ منه، واكتسبتُ مناعة منه مدى الحياة.
***