طيران بلا أجنحة .. عدول عن الانتحار “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
أطلقتُ سراح تفكيري في كل الاتجاهات، وأنا أحدّث نفسي: الانتحار قرار مؤلم ومؤسف بل وفاجع ليس بحق نفسي فقط، بل بحق أسرتي التي تحبّني، وتشعر بالامتعاض وعدم الرضى حيال بعض أخطأ أبي المعهود بغلظته وقسوته، دون أن أنكر عليه هنا محبّته وأبوّته.. أشعر بحاجة ماسة أن أبلغ أبي استيائي البالغ، واحتجاجي الشديد بما يؤدّي إلى ندم أشد يراجع به نفسه، بوجع يطاله وحده.. يجب أن لا يطال هذا الندم والوجع أحداً غيره.
لابد أن أفعل شيئاً يُؤذي أبي وحده وبمفرده، على أن أعيدُ النظر في قراري المنفعل بالانتحار، والرجوع عن الفاجعة التي كنتُ قد نويتها وبيُّتها، وستصيبُ أهلي لا محالة بفادح لا يقوون عليه.. يجب العدول عمّا عزمتُ عليه في لحظة انفعال كان قد بلغ ذروته.. أريد أن أفعل شيئاً آخر مغامر ومقامر على أن يكون أقل كلفة من إزهاق روحي التي إذا ذهبت قطعاً لن تعود، ولا أشد منها إلا فراق من أحب.
غريزة البقاء هي الأخرى مالت إلى رفض قرار الانتحار، ثم وجدتُها تتشبث بالحياة أكثر مما كانت عليه، ثم ما لبثت في صراعها معي أن أنشبت أنيابها ومخالبها في حياة لا تريد فقدانها.. غريزة البقاء استثارت وجودها داخلي، وحشدت قواها، وذهبت بي إلى وجهة غير ما كنتُ قد عقدتُ العزم عليه.. تراخى قراري حتى أنتهى إلى رجوعي عنه، أو عمّا كنتُ قد عقدتُ العزم عليه.
ليس سهلاً ولا هيناً على طفلٍ أن يعقد عزمه على الانتحار إلا بكيل قد طفح، وضرر أستمر، ومعاناة بلغت أتونها، ولكن غريزة البقاء ظلت تنازعني قرار الانتحار، وتمنحني أعذارها، كأن تقول لي ما كانت تقوله لي أمّي وتكرره: ما زلتَ حديث عهد بحياة ستعتدل وتتغيّر يوماً لصالحك.. ما زال مشوار الحياة أمامك طويل، وسيطوله يوماً تغيير وتبديل.. أصبر قليلاً.. قليل من الصبر.. تحمّل حتّى تقوى على الصبر ويشتدُّ ساعدك، وتذهب بعيداً، وتتحرر تماماً من قسوة والدك، وسيفتح الله لك ألف باب على مصرعيه.
ثم تدعوني وتشدَّني غريزة البقاء إلى ما هو أهون فعلاً وأقل ضرراً؛ فتقول لي: بإمكانك البحث عن فعل تغيض به والدك، على أن يكون أقل فقداناً وخسراناً وكلفة عليك وعلى محبيك.. الفقدان إلى الأبد لا تقوى عليه، ولا تقوى أمّك وأخواتك على تحمُّله.
ثم أحدثُ نفسي: إن قتلتُ نفسي، فالأكيد أنني سأقتل أمّي معي حسرة وندماً وكمداً.. سوف أفتقد اخواتي إلى أبدٍ سيمتد إلى يوم القيامة.. سأثقلهم بقية حياتهم حتى مماتهم بكثير من الحزن والحسرة ووجع الفقدان.. جميعهم لا يقوون على حمل مصاب جلل كهذا.
وأسترسل في التفكير والحديث مع نفسي: قطعاً ومن المستحيل أن أقتل أبي، فمن سيعيل أسرتنا الكبيرة بعد أبي إن قمتُ بقتله وتغيبه عن ظهر هذه الدنيا الفانية؟؟! أين سأذهب من عار سيلطخ حياتي كلها، بل وندم أشد، سيودي بعده بي لا محالة، بل ولن تطول مهلته؛ فأكون ما هربتُ منه بتُّ أفعله مرتين.. مرة بإعدام أبي، ومرة أخرى بقتل نفسي.. وتبعاتُ هذا وذاك سيكون وخيماً على بقية أسرتي المنهكة.. قرار أحمق بخسارة مضاعفة.. لا .. لا .. هذا خيار مستحيل يجب أن لا أطرق له باباً أو نافذة.. هنا بإمكاني أن أتهم “الشيطان” داخلي في وسوسة تريد أن تدفعني إلى ما هو أثقل وأفدح.
الحقيقة أريدُ فعل أخر أقل كلفة ولكن لا يخلو من ضجيج أعبّر فيه عن نفسي ورفضي للقمع الذي اجتاحني من أبي.. لن يكون هذا إلا بفعل أخر صارخ ومشبع بالتمرد والاحتجاج. أريد أبي أن يندم على فعله المملوء بقسوة الحديد. أريده أن يسمع بعضاً من جنوني احتجاجاً على قمعه.. أريدُ أن أرد له بعضاً من جنونه بما هو متاح ومقدور عليه، ودون إزهاق أي روح.
لا أستطيع أن أبلع قهري وأصمتُ كحجر أو خشبة.. لا بد أن أفعل شيئاً أعبّر عنه بأقصى ما يمكن من الاحتجاج، ولكن دون الانتحار. أريد بوجه ما أن أعاقب أبي وأسمعه بعضاً من احتجاجي المنتفض.. لابد من حملِه على أن يحسُّ بمظلمتي وظلمه لي، ولا بأس أن يسمع قصتي كل الناس.. أريد أبي أن يندم بسبب قسوته المفرطة حيالي. كان غضبي يستعيد ركضه ورفسه داخلي، والدم يستعيد ثورته ويغتلي في عروقي.. أحتاج إلى إفراغ ما لدي وما في جوفي من رفس واكتظاظ وثورة.
***
نزلت من الحجرة التي كنتُ فيها، وعرّجتُ على باب الدار لأتأكد من إغلاقه بالمزلاج والمرزح، ثم صعدتُ إلى الديوان.. وضعت على الجدار المقابل علبة “طاحونية” فارغة، ولكنها زاهية بلونها الأخضر، وثبتّها بسكين في خُرم الجدار، ثم وضعت أمامي شبه “صندوق”، وهو عبارة عن ألواح خشبية كانت تُستخدم لنقل صفائح الجاز، وتحميلها على الجِمال عند نقلها.
انبطحتُ خلفه، وحاولت تثبيت البندقية بيدي من خلال ألواحه الخشبية لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق الرصاص، واطلقت لرِجلَيَّ التمدد في وضع قتالي لم آلفه، ولكن انطبع في ذهني من صور شاهدتها في مجلات صينية وروسية حصلت عليها في وقت سابق من أخي المنتمي للحزب الديمقراطي الثوري، وقريني عبد الباسط أخ محمد سعيد غالب الذي كان ينتمي لأحد فصائل العمل الوطني التي يرأسها عبدالله عبدالرزاق باذيب.
كنتُ أعرفُ أن البندقية تركض الرامي خلفها عند إطلاق الرصاص؛ فلزم أن أثبّتها على نحو يقلل من ارتدادها.. حاولتُ أسدد على العلبة التي وضعتها على الجدار، فيما إصبعي جاهزة على الزناد بأمان مفتوح على الاطلاق السريع، وبمجرد الضغط على الزناد بإصبعي المتحفزة تم اطلاق الرصاص على السريع.
لم أكن أعرف أن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! لا أدري كيف نجوت؟!! لعل “الخضر” الذي منعني أبي من زيارته كان حاضراً معي، أو هو الحظ الوفير.
لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من خارجه، ويسمع لعلعة الرصاص في داخله، يعتقد أن ثمة زلزالاً قد حل فيه، فيما كانت رائحة البارود نفّاذة تملأ المكان وتعج فيه.
وفي زحام الغبار حاولت أفتش عن علبة “الطاحونية” التي سددت إليها الرصاص، فوجدتها كما هي، والسكين ثابته كما هي في الجدار دون إصابة أو مساس.. لقد تفاجأتُ وشعرتُ بالغرابة أنني لم أصب الهدف الذي سددتُ البندقية إليه، رغم قربي منه أو عدم ابتعادي عنه أكثر من أربعة أمتار على الأرجح.. كانت رماية سريعة من المسافة “صفر”، لقد نجوتُ أنا والهدف، وأُصيب ما عدانا.
النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليروا ماذا حدث!! كان أول الواصلين جارنا القريب مانع سعيد.. باب الدار مغلق، وأنا اطمئن الجميع من مفرج الديوان، إنه لم يحدث شيء ولم يصبني أي مكروه.
تكوَّم الناس باب دارنا، فيما أسئلتهم تتزاحم، وترتسم علاماتها، على الوجوه، وبعضهم يدق باب الدار بقوة ويهم بكسره، وأمي تهرع من البئر إلى دارنا وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة!!
نزلتُ وفتحتُ الباب وأطمئن الناس أنني بخير، فيما امي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار.. ديوان مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع من رأس “شرار” ربما لينتقم منّي أشد انتقام، ولكنه لم يجدني وأبلغته أمي أنني هربت إلى الجبل.
***
مكثتُ يومين في مخبئي السري لا تواسيني فيه غير أمّي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من مائة سؤال ومشكلة.
خلال يومين أحسست أنني مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. هواجس تحتدم داخلي، وكوابيس ضارية تقض مضجعي.. سأم يثقل كاهلي، ووحشة ووحدة قاتلة تشتد في جوف الليل الموغل في السواد.. طلبتُ من أمّي أن تترك لي فسحة بين إخوتي النيام لأنام بينهم، ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن انكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!
مرَّ أبي على إخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بنوم عميق. أنا الوحيد بينهم من كنتُ متوجساً ويقظاً وأكاد أسمع دبيب النمل.. لا أدري ما الذي لفت نظر أبي أو أثار انتباهه رغم سكوننا وخمودنا.. لا ادري أي شيطان أخبره أنني على الأرجح أكون موجوداً هنا، في وسط من يغطون بالنوم.
سمعته يعد من هو موجود، ويقول لأمّي: هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثا على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس بأصابعه، ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين، فيما أبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما إن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض كالمطرقة، فانقَّضَّت أمي عليه كذئبه، وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها. صراخ يمزّق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيبُ أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع.
اقتنصتُ فرصة لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. ركضت وقفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في حال كهذا تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل.
***