غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها حلالا زلالا.. رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، إنها عصية على التلاشي والزوال، لم يمحها غروب أو نسيان..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر “حجب” و”بيرق” و”خرص” و”عنب” و”غبراء” و”مرش” و”سواد” و”حنّا” و”حمراء” و”نشم” و”بحرية” و”قدرية”..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!!
لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها رغم أن بعدها عن اليوم لا يزيد عن مرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد قريب أو لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة “الأنترفيو” عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم..
***
لازلت أذكر العنزة “حجب” اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. “حجب” التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم “عين” وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
لازلت أذكر “خرص” أم “بيرق”، وتمرد “عنب” و”حِنّا” اللاتي ينطبق عليهن مثل “أينما غلّسه باته”، ونشم “الذكية”، وسواد الطيبة، و”مرش” النافرة، و”قدرية” و”بحرية” أغنام أمي المساكين.. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي أعيشه وأنتمي إليه.
أذكر العنزة “خرص” التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن “خرص” “بيرق” قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا ” وأنا عشقت “بيرق” قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت “بيرق” وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت “بيرق” من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت “بيرق” الجرعاء من دون قرون.. “بيرق” لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الثلج.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت “بيرق” تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصورات، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
ربما “بيرق” لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..