طيران بلا أجنحة .. ولادة مترعة بالخيبة
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
اجمل خبر تلقيته بعيد ميلادي في حياتي هو اليوم.
تواصل القاضي عبدالوهاب قطران هاتفيا بأسرته اليوم واخبارها أنه خرج من محبسه الإنفرادي قبل عشرة أيام، والسماح لأسرته بزيارته يوم غد.
تاريخ ميلادي يوم ١٦ فبراير ١٩٦٢ لكم جميعا كل المحبة والاحترام، وبهذه المناسبة أعيد نشر ما كتبته بهذه المناسبة تحت عنوان “ولادة مترعة بالخيبة” كما عشته أو أتخيله، وأتخيل معه مجيئي إلى هذا العالم المشبع بالألم والمظالم، ولم أجد أمامي غير ممارسة وجودي كإنسان في وجه الظلم والاستبداد والطغيان الذي يعج به هذا العالم.
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي بارد، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته. في حجرة حاسرة الضوء، وميالة نحو العتمة. فيها كُوى خانقة للضوء، بالكاد تسمح بمرور بصيص منه.. ضوء باهت، بزاوية مكسورة.. يصل إلى قاع الحجرة وهناً يحبو وهو يقاوم عيه.. الضوء الخافت لا يكفي لترى ما تبحث عنه.. عليك أن تمعن نظرك وتجهد عينيك لترى أشياءك.
الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر إليه قليل من ضوء محسور.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يخطو ككهل بلغ من العمر عتياً، لا يقوى على السير، في طريق ملوي على قطب الدار، يصل إلى الحجرة عي مُجهد.
في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء وأشياء أخرى، ومجمرة في زاوية منها تنفث طيباً وغموضاً، وتمتص بعض من وهن الضوء، وتزفر غماماً وضباباً تحجب رؤيا.. وفي الكوة مر وحلتيتٌ ولبان عربي، وسُخام وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوءً مرتعشاً بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين، المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نُطٍفه.
أمّي تتلوى ألماً.. تصرخ ولولة في لحظات مخاض، حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة، يداها ممسكة بعُقد الحبل بثبات أملاً في عبور جدار من وجع يصطك ببعضه، وألم يمتد ويتمدد، ووجس في النفس يدركها، الخوف من الموت نفاس.
خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتداً محتجاً على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب.. خرجتُ منهوكاً ووجهي مزدحم بوجوم وعبوس، وعيناي متورمتان بإحساس الغربة.. تسألني الغربة: “من انت ومن أين أتيت؟” فأجيب: لا أدري.. من مجهول إلى مجهول.. ضحية أمر واقع، ومجلوداً به.
لا حول لي ولا قوة في ممشى لم أخترهُ.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه خياراً أو حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي الفائض عن حاجته بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إرباً.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما اخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة مملوءة بالظلم المكتظ.. الحق مقموعا فيها، والحب ممنوعا، والعشق غواية عقوبته الإعدام.
استهديت إلى تاريخ ميلادي.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان، وعام هجري تاهت منّي أرقامه، قالوا طالعك الحوت، والبرج هو الدلو، وفي حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، والجدي “شواح بواح” على اسم الأم الغارب، والمتقادم عهده، وبرج النمر الصيني في مولود العام.
يد العمة “سنبلة” زوجة عمي، استقبلت جسدي المُنهك من أول طلّه، عرياناً منكوت الرأس.. قالوا: المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات، هذا ما يُحكى ويُشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات.
خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل، فرحة تموج على وجه أبي، ووجوه الأخوال تنبض بهجة، أمّي غمرتها الفرحة، كان القادم ذكراً لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى، مازلنا نعيش الزمن الغابر.
الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة، ثم يعتادون عليه.. كانت أمّي تميّزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح عاصف، أكبر وأشتد في وجه الدنيا.
كان لخالي صالح باع في التنجيم، وفي كتاب “الرمل”.. يبحث في طالعنا والأبراج.. سمّاني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدٌ، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان له القول الفصل، حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة، صار بعضاً منّي أو صرتُ بعضاً منه.. تعاندني الأقدار، وأحياناً تتخاتل وتخادعني، حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات ونثار، وفي الامر الواقع أهداب تقاتل سيف.
يتوالى السوء والحظ العاثر، الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ، وحصاد لا يشبع جوعاً، جهد يُضني، وحال يشتد.. الجنيُ قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت ألج في العقد السادس، والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وضنَكُ حياة.
أنا الموجود دون رضاي.. وجدتُ من أجل أموت.. حكمة لم افهمها.. في بطن الأفعى أعيش وأموت.. تفح الأفعى بالسم، والسم زعاف؛ فأجد نفسي مسلوقاً في بطن الأفعى.. تلويني كي تهضمني على جذع شجرة يبست حتى صارت صلده، أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود في بطن الافعى غصباً عنّي.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي، ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عنّي طريق العودة إلى عدمي قبل وجودي، أو حتى العودة إلى بطن الأم!!
النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغراً فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختر مكان وجودي، ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يطلق وعده، أعيش معركة الإرغام ليل نهار، والمجهول يترصد خطواتي ذهاباً وإيابا.
لو كنتُ على وعيي هذا، وكان عليّ أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف، وجودي قسري رغماً عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم.
أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ وجوداً وحياة.. لست براضٍ عن حياةٍ يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست براضٍ عن حال فيه الأصل “استغلال الإنسان لأخيه الإنسان”.. يسفك دمه، ويزهق روحه على نحو لا تجرؤ عليها وحوش الغاب، هل قرأت كتاب “الجنس البشري الملعون”؟! أنا من وجد نفسه يمج خيبته ويكرر مقولة فيلسوف: “من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق”.
أحياناً أحتفل بميلادي كسراً للروتين.. بعيد الميلاد أسافر بعيداً عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجاً أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سواداً من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام.
الواقع سيء، والحقيقة مُرّة قالتها نوال: “الحقيقة وحشية وخطيرة”؛ فألوذ بخيال لأعوّض فقداني، وكثيراً من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون.
“لا” في وجه الظالم أقذفها.. أكررها في وسط ينعم بـ “نعم”.. أتذكّر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: “المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم”.. لآتي أقذفها في وجه الطغيان، وأكررها في وجه القطعان.. أدفع كلفتها مهما بلغت ذروتها.. أدفع وأمضي مهما ضاق وأشتد الحال.. أدفع ثمن مُنِهك ولا استسلم.. جحيمي هذا بعض منه، ونزيف الروح.. ما دمتُ أنا موجود لابد أن أمارس وجودي إلى أقصاه، ضد الظلم وضد القهر، وتعسف هذا الإرغام.
***
#الحرية_للقاضي_عبدالوهاب_قطران
#الحرية_للتربوي_الجليل_أبوزيد_الكميم_ورفاقه
#الحرية_لكل_الأحرار