رسالة رابعة إلى أبي .. المستقبل للحرية والوأد للقمع
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
الإهداء:
لرفيقي القاضي عبدالوهاب قطران
والتربوي الشجاع أبوزيد الكميم ورفاقه..
الحرب التي عشنا جحيمها سبع سنوات طوال، كانت يا أبي حرباً غير عادلة.. أهدافها غير أهدافنا.. كانت مخيّبة لآمالنا، ولمستقبل لطالما بحثنا عنه.. نهايات مؤسفة لآمال عراض، ونهاية فاجعة لوطن تمزّق وتشظّى وضاع.. وجدنا أنفسنا نرزح تحت استبداد أكيد، وظلام كثيف، وظلم أشد وطأة، وبما لا يقاس ولا يقارن مع ذلك الذي يوما شكوناه وثرنا عليه.
سبع سنوات من الحرب، وما أن انتهت حتى جاءت هدن تلتها هدن، وحرب تلتها حروب، فيما شعبنا يموت جوعاً وقهراً ولا من يفكر بغوثه، ولا خجل ولا حياء يلتفت إليه.. الوعود تلاشت سراباً، ولا نهاية لحال مزر، وقهر يشتد كلما مضينا دون أن نعلم إلى متى؟! وإلى أين ينتهي بنا المآل وسوء الحال!! كل يوم هم يحصدون وفراً ومغانماً، فيما شعبنا يحصد الموت جوعاً وقهراً وخسرانا.
ذهبت أعمارنا وذوت، وتلاشى ما بقي لنا فيها من أحلام وأماني، وكان الحصاد المر بطعم الموت.. كانت نتائج الحرب فادحة، وكل الوعود التي صارعنا من أجلها الموت، انتهت إلى خيبات عريضة وقاتلة.
ما نعيشه اليوم أشد وأفدح من أمسنا، وقد بلغت خسارتنا أكثر من وطن لطالما دأبنا للوصول إليه، فوجدناهم يعيدوننا إلى واقع صادم يعيش عصبويات ما قبل الدولة، وأكثر منه يمنّون علينا بهذا الإحسان، وهذه العودة الصارخة، والردة الماحقة.
ما صرنا إليه يكشف سوء الحال والمآل، وما نعيشه من تمزق وجوع وفقدان.. تنهداتنا وآهاتنا قاسمة، وقد باتت تكسر الروح وهي تقول: كانت لنا يمن.. كانت لنا دولة أو شبه دولة.. أما اليوم لا دولة لنا ولا وطن.. لا يُمن ولا يَمن.. والأسوأ من السوء كله، مازال أمامنا أن ندفع أفدح مما دفعناه.
نحن الطيبون يا أبي نالت الحرب منّا مقتلاً، وخلّفت لنا ولأبنائنا جوعاً مدقعاً، وفقراً يتسع، ومستقبلاً في حكم العدم.. معاناة ثقيلة لا نعرف نهاية لها.. يومنا بات أزرى وأوزر من أمسنا.. والأسوأ إننا لا نعلم إلى متى!!
ربحوا من الحرب أربابها وتجارها ووكلائها، فيما كالت علينا وبالها ومآسيها العراض.. الحرب التي كان فيها شعبنا محاطبها ووقودها، والحصاد المر لسبع عجاف وبعد السبع ما زالت سنوات أخرى أعجف منها، تركض بعدنا، وتدرك اعقابنا ورقابنا، وتهرسُ عظامنا.. ولا تريد أن تضع أوزارها وويلاتها. وتمنع عنّا فسحة أمل.
***
هي الحرب يا أبي التي قال عنها الفيلسوف الوجودي “سارتر” يشنّها الأغنياء ليموت فيها الفقراء، وهي الحرب ذاتها التي قال عن مأساتها “سوفوكليس” أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريق بأنها تنال من الخبيث بالصدفة، أما الطيب فدائماً ما تنال منه، وهي تلك التي قال عنها “منسيوس” أكثر الفلاسفة شهرة في تاريخ الصين القديم بعد حكيمها العظيم “كونفوشيوس” “الحرب هي أن تلتهم الأرض لحوم البشر”.
نعم هي الحرب يا أبي التي قالوا عنها “عندما تبدأ يفتح الجحيم أبوابه”، وهي نفسها التي قالوا عنها “سوف تنتهي في حال عاد الموتى”، وهي الحرب التي تنتهي كما قال جبران خليل جبران بتصافح القادة، وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد.
قالها شاعرنا نزار “من رأى السم لا يشقى كمن شربا”، ونحن نقولها لمن رأى فيلماً عن الحرب، أو قرأ عنها كتاباً، أو سمع بأهوالها كثيراً، ليس كمن عاش جحيمها سبع سنوات طوال، وبعد السبع شهدنا ما هو أسوأ وأثقل منها، وفيها بلغ الشر منتهاه.. صدق من قال: “لو شهدت يوماً من ايام الحرب لتوسلت إلى الله ألا يريك ثانية منها”. وكم هو فظيع أن تكون من دعاتها والمُطبلين لها، ممن لا يعيشون أوارها وجحيمها، وينطبق عليهم ما قاله جورج أورويل: “كل دعاية الحروب، كل الصراخ، الأكاذيب والكراهية، تأتينا على الدوام من أناس لا يقاتلون!”.
قلنا لهم: إن كانت الحرب من كل بد، فلابد أن نجوع ونموت معاً، وأن نكون معاً مغرماً ومغنماً، أما نحن نجوع ونموت، فيما هم يحصدون مغانمها، ويجبون من الجبايات ما فحش منها، على حساب دم وكدح شعبنا، ويستولون على حقوقنا، وينكّلون بمن يطالبهم بالحساب والمراجعة، فهذه حربهم لا حرب شعبنا الذي اكرهتموه بالحديد والنار، ومخالبكم الناشبة في بطون الجياع الذين أرغمتموهم أن يكونوا محاطبها ووقودها إلى أجل لم تُسمّوه.
حروب في حروب اكتوى وأشتوى فيها شعبنا.. عاش نارها ورعبها وكل فجاجات البشاعة التي تكشف وجوه مشعليها، والمستفيدين منها، والراغبين في استمرارها.. كسب تجار الحروب الذين استبخسوا دم شعبنا أو اهدروه، وأرضنا التي اقتطعوها، ومقدّرات شعبنا التي استولوا عليها، ومستقبل أبناءنا الذي اختطفوه.
نحن فقراء يا أبي أو هذا لسان حال الكادحين.. ازددنا في الحرب فقراً وجوعاً، وبعد الحرب بات حالنا أضيقُ وأوجع.. نموت يا أبي قهراً وكمداً.. لا حقوق ولا مدّخر.. لا رجاء ولا أمل.. بتنا نعلك جوعنا وجروحنا.. كل الوعود تبخّرت، وأشدّها قطع الأمل.. “طلاق يالراتب طلاق”.. إفقار وجوع.. نزيف وإنهاك أستمر، وذكريات تمطرنا بأحزانها، لينطبق علينا ما قاله الشاعر ميخائيل نعيمة عن الحرب:
“أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا”.
كثيرون الذين أكلتهم الحروب، وكثيرون لم يجدوا بعدها إلا ما هو كارثي وفادح.. حصد تجار الحروب ووكلائها مغانم وثروة وسلطة، وحصدنا معاناة تشتد، وفقر يتسع.. بات للشياطين عالم ودنيا وبتنا حديث المقابر.. ما كانوا يجمعونه في عام باتوا يجمعونه في يوم، وكانت مقولة من قال: “يوم الحصاد بالنسبة للشيطان”.
في الحرب حصد التافهون من دمنا مالاً وعقاراً وثروة.. شهرة ونجومية زائفة.. عاشوا وأعتاشوا على دمنا.. دم شعبنا المهدور.. حروب لا يريدونها أن تنتهي.. توحشوا بعد مسكنة وتقية ومخاتلة.. بتنا يا أبي نحصدُ الموت والجوع، وهم يحصدون من دم شعبنا ما لذ وطاب.. من يطالب بحقه يخوّنوه ويصهينوه.. باتت حقوقنا وأقوتنا ورواتبنا التي نطالب بها “خيانة وطن”، ليس فيها عذراً أو شفاعة.. بجاحة مُفرطة، وحياء مُنعدم.. شيء لا يصدق، ولم يكن يخطر يوماً على بال.
***
الحرب رعب يزلزل، ومآسي تضرب أعماقنا.. يتجرد فيها بعض البشر من كل قيم الخير والفضيلة، بل ويصيرون أكثر وحشية من الضواري والوحوش الكاسرة.. قالها إبراهيم نصر الله: “إن الله لم يخلق وحْشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحشاً أسوأ من الحرب..” وقال آخر إنها “أسوأ الطرق لإبقاء الإنسان في هوة الاحتقار، وتحويله إلى وحش ضارٍ”، وكأنهما يوصَّفان من أعنيهم بإمعان.
كان يوماً يا أبي لدينا أصدقاء نحبهم.. كشفت الحرب الأقنعة.. وجوههم دميمة وأصابعهم من جذام.. عقولهم مُقفلة وقلوبهم من حديد.. مغرمين بالدم كعبدة شيطان رجيم.
الأسرى لم يعد لهم مُتسع، والأمكنة تزدحم، وبهم تختنق.. السجون تعج بزحمة المظالم، وجدرانها تقول: “كم في السجون مظاليم”.. المدد باتت على غواربها، حبال على الجرار، تفتك بك مشقّة ومشنقة، وتفنيك دون أن تنتهي، وهي تقول لك: على رسلك أيها العجلان.. معتقلات تكتظ بالأحرار والأبرياء، وتروج مقولة “السجن للرجال”.. يسيئون الظن بشعبنا حتى يصيروا السوء كله دستوراً وقانونا.. بات شعبنا لديهم محل شبهة وتهمة حتى يثبت ولائه.. تهم تعج وتضج، وكل واحدة منها تودي بك إلى مهلكه.. التهم تكال بغراف، أما التلفيق لديهم فما اسهله.
فساد ونهب وظلم ما أثقله.. فاسدون ولصوص وساديون حتى العظام.. فظائع وكبائر وحماقات ألف مجنون.. حقوقنا مستباحة باستبداد وطغيان.. عدالة مصلوبة على أبواب وهامات المآذن.. عصبويات أضيق من حلقة القيد الصدئ، والتعصب منتشر ينفث السم الزعاف.. قرروا أن نكون غنائم وفيد إلى يوم القيامة.. لا سلام ولا حقوق.. شعبا يموت حرباً ومرضاً وجوعاً وكمدا.. يا حسرتاه!!
تجاوز الظلم المدى، ولكن لكل ظالم نهاية.. سينتصر المعصم على قيده، وتنتصر الحرية على كل قيود القمع، وينتصر القلم على سيف الطغيان.. ستنتصر الحياة على الرصاص، وتنتصر الأعناق المشرئبة وشماريخ هاماتها على أعواد المشانق.. سيظل “المستقبل لمن يبحث عنه” مهما أُبعد أو تباعد.. “لا يضيع حقاً وراه مطالب”.. المستقبل حق لنا، ومن كل بد سندركه.. المستقبل للحرية والوأد للقمع.
#الحرية_للقاضي_عبدالوهاب_قطران
#الحرية_للتربوي_الجليل_أبوزيد_الكميم_ورفاقه