طيران بلا اجنحة .. من هذا الواقع أتيت..! “محدثة”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
سكانُ أريافنا فقراءُ على العموم، وبعضهم مُعدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال.. يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس، من أجل لقمة عيش كريمة يكسبونها بكدهم وعرق الجبين. لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تُدمي القلوبَ والأظافر.
جبالنا وعِرةٌ وشامخة، وطينها قليل وعزيز. الأشجار تغالب الحمأ والظمأ، وجذور السِّدر والعوسج و”العسَق” مثلنا، تشق لها طريقاً صبوراً ومتحدياً الصخر والجبل. إنه الصراع مع أقدارها، وتحديها المستميت والمنتصر.
في ليالي الصيف لا تهنأ بنوم دون تنغيص أو عراك.. البعوض يحوم عليك ينتظر وجبته الشهية من دمك.. دمك المحلّى بالسهر.. يستفزك طنينه ويؤذي طبلتك.. يدعوك إلى نزال أو عراك.. تغطّي وجهك وتشيح عنه، فيطبق عليك الليل كتمة.
وإن عرّيت وجهك للهواء، هاجمك من كل حدب وصوب.. عليك أن تقضي معه، بعض من الليل في معمعة.. تشعل النار في حفنة من روث البقر المجفف، لتطرده بالأدخنة، لتنام مهدوداً بالعراك والتعب، وقلقك يقلقل داخلك يرفض أن ينام.
وفي الشتاء يأتي الصقيع، ويصيب وجهك وما غزاه الصقيع المكرر بما كنّا نسميه “الحَبَر”.. لا سكينة ولا دعة، لا في شتاء ولا صيف.. أيامنا كلها عراك وشدة.
الزراعة موسميّة، وأغلب المواسم “تَخيب ولا تصيب”.. كثير من السُّحب كاذبة، وإن بَدَتْ وكأنها مثقلة بالغيث الغزير، ثمَّ تكتشفُ بعد فترة لا تطول أنّها خادعة لا تحمل غيثاً ولا مطراً.. مقالب الأقدار كثيرة؛ قليلة هي المواسم الّتي أوفَتْ وجادت بالغيث من موعد البَذْر حتى موعد حصاده.
أيام النزاف، الماء شحيحٌ.. النّسوة يخُضنَ معاركَ ضروسةً ولساعاتٍ طوال؛ من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة. المرأة تقضي -أحيانا- ثُلثَ نهار أو ربع ليلٍ؛ لتظفر بدبّة ماءٍ واحدةٍ لا يزيد سعتها عن عشرين لتراً.. النِّساءُ لا يظفَرنَ بالماء أيام النّزاف إلّا وقد بلغت قلوبُهنَّ الحناجر.
كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجراً، وسوء التّغذيةِ رفيقٌ حميم، والموت طليقٌ يخطَف مَن يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموتُ ويشتهيهم أطفالٌ وصبية، وشبابٌ بعمر الزّهور. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخاوف الثلاث؛ فقرٌ ومرضٌ وجهل، وزائد عليهن وبالا وكُربة.
أيّامُ عيدِ الفِطر وعيدِ الأضحى هي أيّام فرح العام، وقلّما يجد الفرح متّسعاً في غيرها.. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة، مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثمّ يحتفظون بها لعيد الأضحى؛ ليرموا “عصفورين بحجر واحدة” كما ورد في المثل، وأنا أحب العصافير، ولا أرميها بحصية أو حجر.
قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.. الثياب المشتراة متواضعة ثمناً وجودة.. لا نعرف من أين أتت، وفي أي بلاد صنعت. لا نعرف اي نوعاً هي، وما هي ماركتها.. يكفي إنها جديدة، تم شراؤها من السوق، لنلبسها بفرح يوم العيد الذي انتظرناه بفارغ الصبر.
في أريافنا، كان الصراع مريراً من أجل الحياة.. الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتاب، ولا يفارق، لكأنه رفيق حميم، أمّا النادرُ فلا حكم له.
أغلب النّاس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضًّأن في العام مرتين؛ وربما يتذوقونه في مولد أو موت أو ولادة.. وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام الفرح، فما عليك إلّا مُلازمةُ المرض، وحنون يحبُّك ويهتمُّ بِك.
***
أمَّا أنا فكان لا يروقُني أن يُذبح من أجلي ديك أو دجاجةً، وربما كابرتُ يوماً وامتنعت وأمعنت بالتحدي، وقلت حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي، وبلغ السلُّ مخَّ العظام.. كان وجداني حساساً وكنتُ في وجداني غريقاً، لا أريد أن أكون سبباً في إقصار عمر أو إزهاق روح.
لطالما أحجمت على ما أشتهي، لأطيل عمر ديك أو دجاجة، وأشعر بسعادة هذا البقاء الذي أحجمُ قدر ما أستطيع عن التورط في وضع نهاية لحياة يمكنها أن تطول، ولطالما أحسست بهذا الشعور الكثيف.
ولكن ابتكرت أمي طريقة، أو لعلها نقلتها، أو تذكرتها، أو استدراج وترغيب في مغالبة رفضي لذبح ديكاً أو دجاجة، فتخبرني أنها إذا ذبحت ديك أو دجاجة تستطيع أن ترى من الذي سيموت قريباً، وذلك من خلال معاينة ثقب في عظمة صدر الديك أو الدجاجة، والتي ستخبرنا إن كان الميت القادم صغيراً أو كبيراً.. فنظل نترقب من سيموت في القريب.
كانت أمي تعاين عظمة الصدر فإن كان يميل إلى الحُمرة فتقول أنه سيحدث مطر في الأيام القليلة القادمة.. وكانت تفعل الشيء نفسه عندما تكون الذبيحة “ماشية” من خلال عظمة في الذبيحة نسميها “المكحفة”.. أذكر أن يوماً أخبرتنا فيه أن واحداً كبيراً وعظيماً سيموت، فمات الرئيس جمال عبدالناصر بعد أيام أو أسابيع قليلة، وكنا نحبه كثيرا.
كانت أسرتنا كبيرة نسبيا في عددها، فيجري توزيع لحم الديك أو الدجاجة بين أخوتي وأبي وتخصني بصدر الدجاجة أو بأكثره.. فتقول أمي الجخجوخ للشيبة الملدوخ، والرقبة لصاحب العتبة، والجناح للولد الطماح، الصدر الذي نسميه “السكاب” لطالما خصتني به، ولم أعد أذكر البقية، وهي الأرجل والرأس، ولكن كانت تخص أبي بالجخجوخ، وربما تضيف اليه شيئا آخر.
***
وعندما شببت وكبرت، وفكرت أدركت أن تغيير الوعي أمر صعب ومعقد ويحتاج للكثير، وأن تغيير الواقع من الإنسان إلى الرفق بالحيوان يفوق قدرتي، وليس بإمكاني أن أرسي قوانيني في عالم أشعر أنه يعج بالفوضى و”العبث”، وعادات وأعراف وتقاليد ثقيلة تأصلت في مجتمع ربما لآلاف السنين.
من هذا المجتمع ومن هذا الواقع الصعب أتيت.. مجتمع أتيت إليه مُرغماً أو مرتاباً أو غير مختار.. مجتمع يحتاج إلى ألف معجزة وألف سنة ليكون على النحو الذي أحلم به أن يسود.. أحلم بعالم آخر غير متحقق، أو غير مقدور عليه.
***