مذكرات

 (3) اتركوا التيس واربطوا جمعة! .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. بعض من تفاصيل حياتي.. اتركوا التيس واربطوا جمعة!

 (3)

اتركوا التيس واربطوا جمعة !

أحمد سيف حاشد

في إحدى أيام مستهل عهد دراستي الأول، تأخرتُ عن الطابور المدرسي، وخشيتُ من العقوبة التي سيتخذها أستاذ المدرسة ضدي، وبدلا من أن أذهب إلى المدرسة، ذهبتُ إلى حجرة فوق زريبة بقرة جارنا مانع سعيد..

كانت تلك الحُجرة بمثابة نُزُل مخصص لاستقبال الباعة المتجولين الغرباء، والذين يقضون فيها يوم، أو يومين إن طال بهم المقام، وأغلب الأحيان تظل فارغة لأسابيع دون نزيل..

هربتُ من عقوبة التأخير من الطابور الصباحي إلى ورطة أشد منها، وهي الغياب عن المدرسة كلها ليوم كامل.. هكذا وجدتُ نفسي أوغل أكثر في ورطتي تلك، أو أنتقل من ورطة إلى أخرى أكبر منها..

في اليوم الثاني، ذهبتُ إلى نفس الحُجرة، وتكرر المشهد في اليوم الثالث والرابع، لأجد نفسي كل يوم أدخل في ورطة أكبر وأشد وخامة عمّا قبلها..

كل يوم يمر أشعر أن ورطتي تتعاظم، وتوقّعي للعقاب يكبر بالموازاة مع استمرار غيابي من المدرسة.. وكلّما زاد تغيُّبي انتابني خوف وهلع، واعترتني خشية كبيرة من عقوبة أشد إيلاماً، حتّى تبدّت لي في اليوم الرابع أنها ستكون فادحة..

لقد افتقدتُ إلى الشجاعة من اليوم الأول في تحمُّل مسؤولية ونتيجة الخطأ الأول، فظل هذا الخطاء يكبر ويتسع، ومعه كانت العقوبة المؤجلة تكبر على نحو موازي للخطأ..

ست ساعات في اليوم أقضيها في تلك الحُجرة الكئيبة.. كان الحال عصيباً والساعات ثقيلة، وقد أحسست بوزنها القاتل، وأنا أنسحق تحت دواليبها، وكأن قطارا يمر على جسدي المُنهك.. غير أن الشجاعة ظلّت تخونني في الاعتراف بالخطاء والاستعداد لتحمل المسؤولية..

كانت الساعات تمر بطيئة بطء السلحفاة في أرض لا تخلو من وعورة.. ساعات مملة ورتيبة.. لم أكن أعرف مسبقا أن تلك الساعات ستكون على تلك الصورة التي عشتها، أو على ذلك النحو من البطيء والرتابة، حتّى وإن كنت أراها في الوقت نفسه أقل وطأة من عقاب ينتظرني ظل يشتد ويزداد مع كل يوم يمر، وربما صار يفوق احتمالي.. إنه الهروب إلى الأمام، ومن فادح إلى ما هو أفدح..

كنتُ أحاول أن أخفف من وطأة رتابة تلك الساعات بالنظر إلى الفضاء المقابل والمحصور بزوايا النافذة الصغيرة الذي يطل منها نظري بحذر وتخفّي..

كل يوم يمر في تلك الحجرة التي أخترتها حبساً اختيارياً، أعاني منها وأُنهك لمدة ست ساعات من الانتظار ونزيف الروح..

أشاهد جزءا صغيرا من الوادي الذي تشرف عليه تلك النافذة.. أمعن النظر في الذاهبين والآيبين فيه، وكلما سمعت صوتا ما في الجوار القريب انتفض مرتاباً لأرقب من شقوق الباب ماذا يحدث خارجه! وكلّي توجّس وقلق من انكشاف أمري ومخبئي..!!

ربما أيضا في بعض الأحيان وبدافع الفضول وحب استطلاع للجهة المقابلة لباب الحجرة المصنوع من الألواح والصفيح، يطل نظري المحبوس من شقوق الباب، وأحيانا بدافع التنزه وتفريج الضيق أجد نظري يجول بحذر هنا وهناك، ويشتد محبسي مع مرور الوقت الزاحف ببطيء، ويشتد الوقت بطئا كلما طال وقت الانتظار.

في اليوم الخامس انكشف أمري وفضحني السؤال، حيث سمعت الأستاذ يسأل أبي عن سبب غيابي المتكرر.. فأجابه والدي بدهشة مصدوم أنني أذهب كل يوم للمدرسة، وما أن تنامى هذا إلى مسمعي هرعتُ إلى المدرسة هرولة، وأدركتُ حينها أن الفأس قد وقع في رأسي، وأن أمري قد انكشف وأفتضح، ولابد أن أستعد لدفع ثمن باهض من الألم دفعة واحدة لا أعلم مقدارها، ولا أعلم قدرة تحمّلي لها..

***

ربما كنتُ يومها معذورا لأني لازلت طفلا لم أرشد، بل لم أصر حدثا بعد في بيئة شديدة القساوة، وتفتقر للحد الأدنى من الثقافة التربوية و وسائلها المصاحبة، بل كانت جلّها معكوسة، ووسائلها جافة أو مشوهة أو غير متوفرة أصلا..

اليوم الهاربون إلى الأمام باتوا أفرادا وأرتالا وجماعات.. تبدّل الحال عن أمسه وأنقلب رأسا على عقب.. بات الهروب إلى الأمام مألوفا ومعتادا.. صار الهروب من ورطة إلى أشد لا تقتصر على طفل مثلي، بل وتتمدد إلى الأحزاب والقوى السياسية والثورات بل والشعوب أيضا..

إنها ليست قصتي فحسب، بل هي قصة اليمن كلّها، وشعبها برمته.. قصة القوى والنخب والأحزاب التي هربت إلى الأمام من سيء إلى أسوأ، ومن الأسوأ إلى الكارثة، ومن الكارثة إلى الأكثر كارثية.. من صراع داخلي، إلى إقليمي، ثم إلى دولي شديد التعقيد..!

ما حدث كان ردة فاجعة عن حلم واستحقاق الدولة إلى اللادولة.. هروبا حد الذعر من استحقاق وحلم الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية إلى حرب لا تريد أن تضع أوزارها، ونحن نعيش عامها السابع من العبث والنزيف..

أستمر التراجع والنكوص من شبه الدولة، إلى الدولة الفاشلة، ثم إلى بقايا الدولة، ووصولا إلى ألا دولة.. تقزمت أحلامنا وتلاشت إلى ما لا كان يخطر على عقل ولا بال..

انتقلنا من الاختلاف إلى الخلاف إلى الصراع ودورات العنف المتكررة، ثم إلى حرب ضروس، تماشجت مع حروب داخلية وخارجية مريعة وفاجعة..

انتقلنا من الاحتجاج السلمي إلى معارك شتّى، ثم إلى حرب طويلة، أو من لا حرب إلى حرب ضروس، ثم إلى حروب متعددة لا تبقي ولا تذر..

ما حدث ويحدث يُذكّرني بتلك النكتة اليمنية بامتياز، والتي خلاصتها “اتركوا التيس واربطوا جمعة”. تقول النكتة:

دخل تيس الى الغرفة، وكان الأب يتعشى مع أولاده..

قال الأب لابنه الاكبر: قم يا جمعة اربط التيس بسرعة حتّى لا يركضنا..

قام جمعة مستعجلا، فخبط رأسه باللمبة وكسرها، فصار البيت مُعتما، ولم يعد جمعة يرى شيئا..!! فوقعت أحدى قدميه في صحن الأكل، فأنقلب الصحن، ونثر ما بداخله من أكل على الارض.. فقفز جمعة المذعور، وجاءت رجله اليسرى في بطن الأب، واليمنى بجبهته!!!

فصرخ الأب في اولاده:  يا عيال.. خلوا التيس واربطوا جمعة!!

ما أكثر جُمعنا اليوم.. جُمعنا كانت رغم سوؤها أفضل مما هي عليه.. ربما كانت لا تخلوا من طيب ومسك وتسامح، فصارت اليوم رصاص وموت وبارود.. ما أكثر جُمع أيامنا، وما أشبه حالنا بنُكتنا التي تبعث على السخرية اللاذعة، والمرارة المقذعة، والألم الأشد..

ما حدث ويحدث بات يفوق بكثير احتمال وصبر اليمن، وهو واقعا بات حاصلا وما كان ليخطر على بال أو خيال..

***

يتبع

 

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى