مذكرات

طيران بلا اجنحة .. الموت والصرخة المميتة

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

كما أسلفت كانت أسرتنا الصغيرة في عدن مكونة من أبي وأمي وأنا، وأختين توأم هما: (نور وسامية).. أسرة صغيرة وبسيطة تربّص بها الموت مليّاً حتى ظفِر بالزّهرتين، وبلغ الكمد فينا مغاور الروح وأرجاء الجسد.

جاء الموت على نحوٍ غريبٍ وغامض، ما زلتُ أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم.. شيء لم أفهمه أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين، وكِدتُ أكونُ أنا الثالثُ لولا الألطاف.. ذهب الموت بعد أن أخذ غنيمته، وظلّت أنفاسه ثقيلة تعوي في “بيتنا”، وترفض الرحيل أو الخمود.

أختي (نور) عمرها لا يتجاوز العام.. كانت تصرخ فجأة صراخاً طافحاً وقوياً، وما ان يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض أو الفراش تعاود الصراخ، حتى يكاد ينقطع نفَسها، فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمّي، فتكفُّ عن الصُّراخ، ويستمرّ هذا الحال الذي ينتهي غالباً إلى أن تنام محمولة. وفي إحدى المرّات صرخت ولم تستعد أنفاسها، وماتت في الحال.

توأمها أختي “سامية” عندما صار عمرُها أكثرَ من عام، تكرر معها مشهد ما جرى لأختي “نور”.. نفس الحالة ونفس الأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم تتم المسارعة لحملها من قِبَل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش، تصرخ مجدداً وبصوت متفجر، فيتم حملها بسرعة، وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة.

وبعد قرابة العام من رحيل أختي نور، صرخت “سامية”، فسارع أبي لحملها، ولكن انقطع نفَسُها وماتت.. لم نعرف سبباً لموتها إلى اليوم.. زعم البعض هُراء أنها ماتت؛ لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت “فرحة”، وأيُّ فرحةٍ إذاً وصرخة موتها كانت تشق الجدار.

“نور” كانت حياتها أقصر وأسرع، وتفاصيلها عصيّة على الذاكرة، فيما “سامية” ما زلتُ أتذكرها، وأتذكر بعض تفاصيلها إلى اليوم.. كنتُ أمرجحها حتى تنام في “المهد” المصنوع من سعف النخيل، وفي صحوها كنت ألعب معها، وآنس إليها في محبسي، وتشاركني وحدتي.. سامية كانت جميلة وبهية، فيما حياتها كانت كأختها نور قصيرة وسريعة.. حياة خاطفة كلحظة عاشق، أو كحلم جميل مر سريعا وعلى عجَل.

***

ما زلتُ أذكر أختي سامية وهي مُسجاه على الفراش بعد موتها، كانت نظرتي الأولى قد جعلتني مشدوهاً إليها على نحو خامرني بعض من إحساس الغموض والغرابة، وكأنني أشاهدها واكتشفها للمرة الأولى.. كانت مسجاه دون نفَس أو حراك، وكونها لا تبكي لم يصيبنِ هلع أو فزع، ومع ذلك ظل الغموض يثقل كاهلي، ويسيطر على وعيي المحدود، حبيس الجدران والخشب.

أجتاحت أمّي نوبة بكاء حادة لم أفهم سببها.. دموعها تسفح من عيونها، وتتغازر أكثر كلما أوغلت في الحديث عنها، أو ذكر بعض من تفاصيلها، وعلى غير العادة كانت عدد من النساء يتقاطرنا إلى بيتنا.. رأيت بعضهنّ يحيطنّ بأمي، ويحاولنّ التخفيف عنها، ويُشاركنّها في ذرف الدموع.

ألم ووجع وكآبة في البيت لا أعرف كنهها.. كنت أشعر بذهول وحسرة لا أدري لماذا؟! لا أعرف على وجه التحديد ماذا حدث، أو الذي كان يحدث!! ليلة دامعة، وحزن يغشى المكان، دون أن أعرف سبباً لذلك.. كانت الرغبة تستبدُّ بي لأعرف ماذا حدث!! كان الغموض كثيفاً وعصيّاً على فهمي المحدود الذي مازال يحبو دون معرفة أو تجربة.

لا أعرف ماذا حدث..!! لم أكن أعرف إن أختي ماتت وأنها لن تعود.. شاهدتُ وجهها نابضاً بالنور، لمحتُ انعكاس الضوء على أرنبة أنفها حتى بدت وكأنها تنبجس ضياء ونور.. رأيتها أكثر إشراقاً وجاذبية، فيما لمعة عيناها كانت ما تزال آسرة رغم السكون.

كانت تلبس ثوباً بلون دمِ الغزال. مازال هذا اللونُ أثيراً لنفسي، وإن كان يُذّكرُني بفراق طويل. لم أكن أدرك حينها أنّ الموت خطفها وغيّبها للأبد.! لم أستوعبْ أنّها لم تعُد بيننا وأنّها لن تعود أبداً.

ليلتها لم أشعر بنعاس أو نوم.. قلق غامض يشي بحدوث شيء لم أفهمه.. تم حمل أختي ملفوفة بقماش إلى الخارج لا أدري إلى أين!! زاد شغف الأسئلة لديّ، ولكن لم أجد من يفهمني جواباً، وربما وجدتُ إجابات إنها ستعود، ولكنها لم تعُد.. كلام كثير اسمعه ولم أفهمه.. محاولة تلصص المعرفة مر دون معرفة أو نتيجة.. لم أكن أعلم إن الغياب قاس وموحش حتى عشته لاحقاً، ولم أكن أعلم أنه سيستمر إلى يوم القيامة.

***

بعد أن غيّب الموت أختي سامية، كنتُ أبحثُ عنها على الدوام، وأبكي عليها بحرقة فقدان، ومرارة فراغ وكآبة.. أسأل أمي: ابحثي عنها في مكان نومها، أنا لا أراها ولم أجدها..!! أريد أختي، أريد أن ألعب معها..!!

لم تحتمل أمي كلماتي الموجعةَ والمؤثرة.. كنتُ لحوحاً عليها بطلبي الذي يخالطه البكاء.. بدت أمي في بداية الأمر رابطة الجأش بحال مصابر، ثم حاولت أن تبلع غصصها بصعوبة خانقة، وظهر صوتها متهدجاً وفيه تقطُّعاً وغياباً.. حاولت أن تداري حسرتها عنّي، وأن تغم عليّ وعلى سؤالي اللحوح، والابتعاد عن وطأته بحرف مسار ما أبحث عنه، غير أن محاولاتها كانت تمر دون جدوى، ثم فجأة أنهارت وتفجرت بالبكاء.. انهمرت دموعها غزيرة وحارقة.. بلغ بها البكاء حسرة ونشيج.

كانت هي تبكي وأنا أبكي معها دون أن أعرف سبب هذا التداعي للبكاء، وانهمار باذخ وغزير للدموع المترعة بالملح والسخونة.. ثم حاولت تعزّيني وهي تجهش بالبكاء، وتخفّف من وجعي ووجعها، وتقول: إنها في السماء، وإنها مرتاحة هناك، وسعيدة مع بنات الحور، وإنها تأكل التفاح وكلّ أنواع الفاكهة.. كلّ ما أنا محرومٌ منه في الدنيا الفانية هي تأكله، وتنعم به في الحياة الثانية.

كبرتُ وكرهتُ هذا الموت الغامض الذي يسلب منّا من نحب.. كنت أسأل أمي متى ستأتي يوم القيامة؟! متى سألتقي بأختايَّ (نور وسامية) إنني أكره الموت والفراق الطويل؟! العجيب انّها كانت تقول: إن الإخوة لا يلتقون في الدار الثانية إلّا يوم القيامة، أما بعد القيامة، فلا وصل ولا لقاء بين الإخوة، بنيناً كانوا أو بناتاً..

ربّما كانت أمّي أو مَنْ جلبَ لها هذا القول، يقصد تعميق أواصر الأخوة وتوثيق المحبة بين الإخوة في هذه الدنيا الباذخ أهلها في الأنانية، ولكن كان الأمر بالنسبة لي يعني حزناً عميقاً على فراق طويل، وحسرة أطول على فراق أبديِّ، ومن أبحث عنها لن أراها إلا ليوم واحد فقط، هو يوم القيامة، ثم يعود الفراق إلى الأبد، أو إلى ما لا نهاية.

بعد أكثر من احدى عشر سنة فكرتُ بالانتحار، وهمَمْتُ بمغادرة هذه الدنيا الكئيبة إلى دار الآخرة لأستمتع بتلك الحياة الرغيدة، وأعوّض كلَّ حرمانٍ عشته في هذه الدنيا، ولكن شقَّ علي أن أتركَ أمّي وحدها تنتحِب بقيّة عمرها.. رأيت أنّ المغادرة بمفردي دونها أنانية تبتليني، ورأيت أن البقاء عذاب لا ينتهي إلّا برحيلي، وقد بات الأمر سيَّان، وكأنّني أدور في مدار من عذاب لا يريد أن ينتهي، ولكن حب أمّي كان عظيماً، وفيه كثير من ملاذ وعزاء.. فاخترتُ أمي التي أحببتها.

***

ولدت أمّي في عدن بأخت ثالثة أسمتها “نادية”، ولدت معلولة بمرض لا ندري ما هو !! كان جلدها يتخلّس ويتخلّع، وكان الجميع ينتظر وفاتها بذلك المرض الغامض والشرس.. قالوا في تنجيمها إنها نحس على أبوها وأمها، على غير نور وسامية، وقبلهما أنا. ولكن نادية قهرت الموت والمرض، ولكنها على ما يبدو فشلت في كسر دبورها.

بعد عودتنا إلى القرية، ومن فرْطِ تعلُّقي بأختي سامية التي غيّبها الموت عنّا، والتي لطالما بحثتُ عنها ولم أجدها، ورغبتي الجامحة في أن يكون اسم المولودة الجديدة “سامية” والتي توافقت مع رغبة والديّ في كسر النحوس التي باتت تلاحقنا، كل هذا حملهم أن يكون اسم المولودة الرابعة”سامية”، والتي قيل عنها وعن اسمها أنها سعيدة، وستمحو دبوراً ونحساً سبق.

لقد كان اسم “سامية” بالنسبة لي تخفيفاً من فراغ موحش تركه الموت الذي غيِّب عنّا الأختين. هذا الموت القاسي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية الجديدة تقوم اليوم مقام أمي الراحلة.. تحس بي أكثر من نفسي.. تشاركني وجعي وتجبر مصابي..

سامية تقرأ القرآن وتحفظه وتأنسه كما كانت تفعل أمّي، وتكثر لي الدعاء ليلاً ونهاراً.. أقيم في وجدانها، وتملئني هي بغزارة عطفها.. تعينني على الصبر وتجاوز كل مصاب.. ترياق أستدعيه كلمّا تكالبت عليّ الهموم الثقيلة، وتخفف عنّي حالما يصيبني كثيراً من الخذلان والألم والحزن.

سامية كانت خير تعويض وعزاء لي في صغري، وملأت في كبري ما تركته أمي بعد رحيلها من فراغ موحش وفقدان كبير.. سامية هذه جاءت شفيفة ومُرهفة.. حميمتها على نحو لا يُصدّق، رغم أنها الصدق كله.. مسكونة بالسموّ والعصامية ونكران الذات، ومملوءة بالنُّبل الجميل.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى