مذكرات

(4) تعرّي واستجداد ! أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي ..

(4)

تعرّي واستجداد !

أحمد سيف حاشد

يمني برلماني:

اليوم يتم التعاطي مع التعرّي في وجه منه من قبل بعضهم باعتباره وسيلة احتجاجية تحمل في جوهرها رفضا لواقع ما مُكرّس بالإكراه والسلطة، وتمردا صادما على المجتمع ومنظومة تصوراته ومعتقداته الراسخة، وكسرا للتابوهات والصنمية والسلطة الغارقة في الأبوية، وخروجا على النظام العام، وعلى أوصياء الدين والأوصياء على أخلاق المجتمع..

 

هذا النوع من الاحتجاج جرى استخدامه كتعبير صارخ عن السخط الشديد لمن يقوم به، واستخدام الصدمة لإيصال المطالب، ورسالة احتجاج مستفزة ومثيرة للانتباه، تستدعي الاهتمام وتجلب الفضول، والتعريف بأسباب ما يجري الاحتجاج بشأنه..

 

ربما فكرتُ يوما على هذا النحو حالما طالني الظلم في مجلس النواب وخارجه، بل وكدت أشرع في تنفيذه أكثر من مرة في قاعة المجلس، وأكثر منه هددتُ يوما أنني سأحرق نفسي في قاعة المجلس أو ساحته.. والمشترك بين الفعلين أن كليهما احتجاج صادم، وكلفتهما عالية في مجتمع محافظ جدا، لا يتحمل الاول، فيما يعتقد بكفر الثاني الذي يرى أن فعل صاحبه سيذهب به إلى جهنّم، وكليهما يجرّمهما القانون النافذ.

 

لقد راعني وفاجئني ما حدث لذلك الإنسان النبيل منيف الزبيري الذي رأيته وقد شرع في أحراق نفسه متضامنا مع جرحى الاحتجاجات السلمية، ومحتجا على عدم تنفيذ الحكم الإداري الواجب تنفيذه، والذي يقضي بالزام الحكومة بعلاج عدد من الجرحى، وتحمُّلها نفقات سفرهم وعلاجهم واقامتهم أثناء فترة العلاج في الخارج.. حدث هذا حالما كنّا ندخل على الأرجح الأسبوع الثاني من اعتصامنا وإضرابنا عن الطعام أمام مجلس الوزراء بصنعاء مستهل العام 2013.

 

وفي تاريخ لاحق شرعتُ بالتعرّي محتجا في قاعة مجلس نواب صنعاء أثناء “سلطة الحوثيين” وبحضور حكومتهم، غير أن بعض النواب هرعوا وحالوا دون اكمال ما بدأته، وانتزعتُ لحظتها حقي في الكلام الذي لطالما صادروه.

 

حدث هذا قبل أن أعرف بوجود سابقة من هذا القبيل لجأ إليها “أنطونيو غرسيا” أحد أعضاء مجلس النواب المكسيكي ذو التوجه اليساري احتجاجا على خوصصت القطاع العام والذي اعتبره النائب وسيلة لنهب المال العام، وشبهه بنوع من “التعرية” للمكسيك، وعلى الرغم أن هذا الاحتجاج لم يثنِ الحكومة والمجلس من تمريره وشرعنته إلا أنه وجد من رآه فعل احتجاجي شجاع وتاريخي ليس فقط في تاريخ البرلمان المكسيكي، بل وتاريخ برلمانات العالم.

 

***

 

تاريخيا تذكر المصادر أن أول من استخدم التعري كوسيلة احتجاج هي امرأة بريطانية اسمها “الليدي غوديفا” (1040 – 1070) عندما قامت بركوب صهوة حصانها عارية في إحدى المدن البريطانية، مطالبة زوجها وهو حاكم المدينة بتخفيض الضرائب عن سكانها..

 

أما اليوم فصار التعرّي أسلوبا احتجاجيا مُستخدما من قبل محتجين في أكثر من بلد، وذلك في إطار الاحتجاج العالي والشديد في مناهضة الحروب، والمطالبة بوقفها، ودعم بعض القضايا المندرجة في إطار حقوق الإنسان..

 

 هذا النوع من الاحتجاج تم الاعتراف به من قبل بعض البلدان، وإدراجه في إطار حق التعبير، و وفرت له بعض الحماية القانونية والقضائية، ومن تلك البلدان على سبيل المثال فرنسا، حيث قضت محكمة النقض الفرنسية بتبرئة الناشطة الأوكرانية “يانا زدانوفا” من تهمة “التعرّي الجنسي” واعتبرت سلوكها جزءا من احتجاج سياسي وقالت: “أن تجريمها  سيشكل تدخلا غير متناسب في ممارسة حرية التعبير”.

 

ومن وقائع هذا النوع من الاحتجاج نذكر ما أقدمت عليه الفنانة التشكيلية السورية هالة الفيصل أبنة الشيوعي المنحدر من أسرة محافظة، والوزير في الستينات واصل الفيصل.. “هاله” أم الست لغات، والممثلة السينمائية، والفنانة التشكيلية التي طافت بمعارضها التعبيرية في عواصم عربية وعالمية عديدة، وجسدت في بعض لوحاتها احتجاجها على قمع الجسد العربي، وفي لوحات أخرى جسّدت الأم العراقية التي فقدت أبناءها..

 

“هالة” التي أرادت هذه المرّة بالتعرّي أن توصل رسالتها الاحتجاجية الصارخة ضد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، من ساحة «واشنطن سكوير بارك» عندما تعرّت على نحو كامل وكتبت على ظهرها باللون الأحمر “أوقفوا الحرب” ووضعت يديها فوق رأسها وطافت  في الساحة..

 

ما أقدمت عليه “هالة” هو فعل أستهجنه البعض ووصفوه بقلة الحياء، بل والمتعرّي من الأخلاق، وفي المقابل أعتبره البعض فعل شجاع من مناضلة جسورة، وقالوا إنما العار هو السكوت على الاحتلال والتعامل مع المحتلين، فيما علّقت هي: «آمل ألّا يساء فهمي وبشكل خاص من جانب الناس المتديّنين، فالله ضد الحرب». وأضافت « ما يحصل فوق المعقول، والدم الذي يهدر كل يوم، والتاريخ يدمر، وهذا لا يعود أبدا». وربما أنطبق عليها في احتجاجها قول الشاعر بمناسبة مماثلة:

“ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أن في هذه الجموع رجالا”

 

هناك أيضا حركة “فيمن” النسائية التي مارست هذا النوع من الاحتجاج عن طريق التعري، والتي نشأت في أوكرانيا للاحتجاج على التجارة بالفتيات الأوكرانيات، والاستغلال الجنسي لهن، ودفعهن لامتهان الدعارة..

 

ولم ينحصر مثل هذا النوع من الاحتجاج المتعرّي على بعض البلدان الغربية، بل وكان للشرق أيضا حضوره فيه؛ على سبيل المثال لا الحصر تعرّي النساء في شمال شرق الهند عام 2004، احتجاجا على قيام الجيش باغتصاب النساء.

 

***

 

وفي اليمن رأينا في مسيرة الحياة وبعدها بعض الاحتجاجات التي أخذت شكل العري الجزئي أو النصفي من قبل بعض الثوار الشباب المتأججين بأحلامهم.. كما شاهدنا أو قرأنا عن بعض الاحتجاجات الفردية والخجولة، التي قامت به بعض النساء هنا أو هناك دون أن يتجاوز ذلك الفعل إحراق ما على الرأس والوجه من قطع القماش، ولكنه كان فعل يعبّر عن احتجاج بالغ وصارخ وسط مجتمع محافظ ومتشدد في نظرته للمرأة إلى الحد الذي يعتبر حتّى صوتها عورة..

 

وفي هذا العهد المظلم والحرب الدائرة ضيّقت جماعات الإسلام السياسي هنا وهناك على حريات المواطنين، بل وحاولت فرض توجهاتها ورؤاها على حياة وتفاصيل المجتمع، وذهب بعض رجالها للتضييق على الحريات عموما وعلى حقوق المرأة بوجه خاص..

 

ومن مظاهر ما جرى التشدد حياله منع كشف شعر رأس المرأة، وفرض الحجاب، ومنع الاختلاط، والفصل بين الجنسين، ومهاجمة ومداهمة عدد من محلات الكوافير والمطاعم، والمحلات التجارية التي تبيع أحزمة وأربطة الخصر، وطمس وتشويه الرسومات والاعلانات على واجهة المحلات التجارية التي تظهر فيها شعر رأس المرأة وأطراف جسم المرأة عاريا، بل وطالت المصادرات السلع التي عليها ملصقات ما يصنفه المتشددين بالمنافية للإسلام.

 

كما طال التنكيل العديد من الفنانين وتمت مداهمة بعض صالات الأعراس والاحتفالات في المدارس، وذهب التشدد والتوجس إلى تصنيف ما تم استهدافه بأنه يندرج في إطار الحرب الناعمة والموجهة..

 

تلك التفاصيل الصغيرة تم اعتبارها من قبل بعض النافذين والمتزمتين المُحبَطين في الجماعة مفسدة كبيرة وعظيمة، بل وأرجعوا إليها سبب فشلهم وإخفاقاتهم وتأخرهم في إحراز النصر في هذه الحرب التي نعيش أوارها وتداعياتها للسنة السابعة.

 

***

 

اليوم صار كل شيء يتعرّى حتّى من ورقة التوت.. تعرّت أجندات الحرب.. وتعرّى معها ما يجري في الحرب من ارتكاب الفظائع والبشاعات.. تعرّت الأنظمة والجماعات وسلطات الأمر الواقع هنا أو هناك..

 

تعرّى تجار الحروب، وبائعو الأوطان، وتجار السوق السوداء، والمتاجرون بأقوات الناس، والمستولون على رواتب وحقوق الموظفين والمتقاعدين والمساعدات الإنسانية.. تعرّى النهابون والفاسدون والتافهون..

 

إنه تعري لا سابق له.. وكان يكفي هذا التعري لتبدل الحال أو انقلابه رأسا على عقب.. غير أن شيء من هذا لم يحدث، وقد طالت هذه الحرب بآمادها وأثقالها.. لقد باتت مجتمعاتنا خاضعة وخانعة ومستكينة ومتعايشة مع كل هذا العري والتعري المرعب، وفي المقابل وما يندى له الجبين إنها لم تستطع التعايش مع امرأة كاشفة خصلة من شعرها في الشارع أو في مكان عام..

 

ولكم أن تتصوروا أن رجل أو امرأة خرجت إلى التحرير متعرية ومحتجة على الحرب أو الجوع أو قطع الرواتب ماذا سيحدث..؟!! لا أظنها ولا أظنه يحيا بعدها يوما أو ساعة، ولن تشفع لك مقولة علي “الجوع كافر”.. أما “هالة” المتعرية احتجاجا في وسط أمريكا الملعونة فتم توقيفها لمدة ساعة لدى الشرطة الأمريكية، ثم تم اطلاق سراحها..

 

في اليمن أن تتعرّى احتجاجا فذلك الكفر كله، ولن يقبل لك فيه عذرا أو قولا أو شفاعة.. أما أن تموت من الجوع فذلك شأنك حتّى وإن هلك الشعب كله حربا وجوعا، فهو الله وهو قدرك أما السلطة فشأنها آخر..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت فترة (الإستجداد) خمسة وأربعين يوما، يبدأ احتسابها من يوم الالتحاق بالكلية، وهي فترة ثقيلة وشديدة على الطالب، ويعطي عبورها مؤشرا أوّليا على قدرة الطالب، واستعداده اللاحق على تجاوز ما بعدها من مراحل.. كان عدد غير قليل من الطلاب، يتسربون أو يهربون خلال فترة الاستجداد، عندما لا يستطيعون اتمامها بسبب شدّتها وغلظتها وضغوطها..

 

كان يتم قبول عدد أكبر مما يتعين قبوله في الدفعة، أو بالأحرى على نحو يزيد عمّا هو مطلوب، ثم تتم التصفية ويتناقص العدد حتى يصل إلى العدد المطلوب.. كانت نظرية البقاء للأقوى فاعلة خلال مرحلة الاستجداد، وكانت تلك المرحلة هي الأصعب خلال العامين الدراسيين، وكان السؤال المُلح أمام الطالب خلال فترة الاستجداد هو: هل أستطيع اكمال فترة الـ 45 يوما أم لا ؟؟

 

كانت فترة الاستجداد علينا عصيبة ومرهقة جدا.. مثقلة بالحزم والشدة والصرامة.. عقوبات شديدة لأبسط وأتفه سبب أو خطأ ترتكبه، بل أحيانا يصل إلى الحد الذي لا تستطع أن تدرك ما بدر منك من خطاء.. كنت أشعر أن من يتخذون تلك العقوبات يقصدون التطفيش لا أكثر، وأحيانا أظن وكأنهم يمارسون الانتقام والتشفي في آن، وفي أحايين أخرى أشعر أن من يتخذوا بعض تلك العقوبات علينا، مرضى بالسادية وعُقد النقص الثقيلة على أنفسهم وعلى غيرهم..

 

فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط والجلَد.. وهي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع.. مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية بصرامتها وضوابطها.. مرحلة “الضبط والربط العسكري”.

 

***

 

كنت أحس أن الملابس العسكرية النظامية ثقيلة جداً، وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع ..

 

حالما أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية كنت أشعر وأنا بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسفا بها طويلاً.. أحس أنني خفيف الوزن كعصفور.. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس، يجلب لي الشعور بالسعادة الغامرة.

 

كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فنله) بيضاء وسروال قصير أزرق.. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصير عورة ولا يليق، ولكن مع مضي الأيام اعتدتُ عليه، وكنت أحبذها على الملابس الثقيلة التي أُلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.

 

كنت بطبيعتي منزوٍ وخجول.. وكانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك الفترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب وزائد على ذلك كانت متقابلة، وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا أمامه، وكان هذا الحال يضايقني كثيرا، وأشعر أنه يخدش حيائي بسكين، ويسبب لي كثيراً من الخجل الذي كان يبدو لي لا يُحتمل..

 

أنا وصديقي الطيب في مدرسة البروليتاريا وثبنا يوما من سطح أحد أبنية القسم الداخلي التي كانت لاتزال غير مأهولة وجاهزة.. بدأ صديقي بالقفز، وأثناء القفز رفع الريح سترته، فبانت عورته.. كان الإحراج عليه شديدا، وحمرة الخجل الأشد على وجهه كان يخالطها السواد، وتحتاج لمرور بعض الوقت لتتلاشى، وربما ظلت الصورة عالقة في الذهن رغما عنّا بعض الوقت، ونحن نحاول أن نتجاوزها ولا نريد تذكّرها.. ربما يوما هاجس جاس في مخيلتي، وجعلني أتخيل غسلي بعد موتي من قبل غاسل الموتى.. شعرتُ بالعيب وعار العورة، وغصتُ بالحياء رغم افتراض أنني ميت لا وعي لديّ ولا إحساس..

 

ونحن بهذه الدرجة من وعي العيب كنت أسأل: كيف يمكن أن نغتسل وكل العورة بادية للعيان؟! كنت أرى الأمر عقبة كأداء أغالبها بصعوبة جمة وحياء كثيف.. إنها أكبر من تجربة معاينة وفحص الطبيب التي مررتُ بها..

ولكن ما أمر به صرتُ فيه كحال ذلك الذي ورد في قول المتنبي: “انا الغريق فما خوفي من البلل” انعدام الخيار وتكرار الفعل وتعوده جعل الأمر عاديا ومعتادا، واكتشفت معه أن العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر..

 

تعايشنا مع الأمر الواقع، وصرنا معتادين الحال، بعد أن كنت أراه مستحيلا، أو أخاله أكبر من المستحيل.. ومن هذا عرفتُ مليا أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف مع الوسط الذي يعيش فيه.

 

وفي هذا الصدد قرأت لأحد العرب شهادة مماثلة أو مقاربة جاء فيها: “في السنوات الأربعة التي أمضيتها في برلين أصبحت أكثر تصالحا مع التعري مقارنة بالماضي.. ففي ألمانيا يُعد التجرد من الملابس أمرا معتادا في بعض المواقف اليومية. فقد اعتدت الآن على الذهاب لحمامات الساونا، التي لا يرتدي روادها أي ملابس، والغطس في حمامات السباحة، حيث يسبح الناس عراة كما ولدتهم أمهاتهم.”

 

***

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى