مذكرات

(2) فاتحة وصلاة وعقاب.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي.. أحمد سيف حاشد

(2)

فاتحة وصلاة وعقاب

أحمد سيف حاشد

أريد “سفينة النجاة”.. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى.. أريد أن أصلّي لأدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. في الجنة تفاح وأعناب وفواكه، وأنهار من عسل وسمن ولبن.. كنت أتخيل الأمر وأنشدُّ إليه بوجداني وجوارحي كلّها.. ياله من رغد وترف وحياة بهيجة لا تنتهي..

كل ما أشتهيه سيكون موجود وحاضر.. كل ما تتمناه في الجنة سيأتي عاجلا وعلى الفور قبل أن يرجع إليك طرفك.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان ضاق معه العيش وأشتد فيه النكد..

كنت استفسر أمي وأكثر عليها الأسئلة، وهي تحكي وتطيل بسعادة غامرة عن الجنة وتفاصيلها.. تشرح ببهجة وكأنها تعيشها.. تروي مشاهدها بما يأسر الروح، ويغري الخيال المجنّح، ويسحر المسامع، وتشغف القلوب..

في هذا الإطار الزاهي والخيال المحلّق عاليا لطالما حدثت نفسي ولكن ببساطة دون تقعير..

أريد “سفينة النجاة” التي تنجيني من النار، وتعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من حين إلى آخر.. وبعد انتظار طال وصبر كاد ينفذ، ووعود خاب رجاءها، أوفى والدي بوعده الأخير، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..

عندما ناولني أبي كُتيّب “سفينة النجاة” كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب.. قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي:

“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني

أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”

ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..

“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..

***

خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها ضباع وسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. تشتت روحي كنثار رمل في إعصار مدمدم، وتطايرتُ كشرر نار حديد تحت مطرقة حداد..

أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون موسم، وتساقطت بعض الكلمات من فمي، فألملم بعضها، وتسقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..

يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، ويتداخل كل شيء ببعضه، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أحفظ ولا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا أعرف ولا يعرف من يسمعني ماذا أقول!!

ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس لا يقوى على المقاومة، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة من الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..

أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في “كريتر” عدن.

***

أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وقد تعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبيه، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن فجرا..

ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح.. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: “سجل 16 سنة”.. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..

غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..

***

قصتي مع “سفينة النجاة” يشابه ما حدث لسفينة “تيتانيك”.. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و”الرب خير حامي وحارس”..

“سفينة النجاة”، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة “تيتانيك” التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت عميقاً في قاع المحيط..

“تيتانيك” بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..

***

خالتي “سعيدة” أم أخي علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها “الفاتحة” أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..

خالتي “سعيدة” كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..

***

موقع “يمنات” الاخباري

موقع النائب أحمد سيف حاشد

أحمد سيف حاشد “فيسبوك”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى