تغاريد غير مشفرة

من يومياتي في أمريكا  .. عذاب القبر في أمريكا

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

صديقي الحرازي اسمه عبدالواحد القديمي من بني إسماعيل في حراز.. يقابلك بتحية عسكرية ووجه رضي ينبض بالمحبة.. في كل مرة تلتقي به يتملكك الخجل من حفاوته وحرارة استقباله لك.. ملامح وقسمات وجهه وبشاشته تمنحك طمأنينة وسكينة وراحة بال.. يشعرك بالألفة والمحبة والدفء.. يتسلل إلى وجدانك كجدول ماء عذب.

يأسرك حديثة من أول وهلة.. يغمرك بانسانيته.. تتجاذب معه أطراف الحديث فيتسلل إليك شعور وكأنك تعرفه منذ عهد بعيد.. يهطل عليك مطرا من محبة.. إنسان قل نظيره أو قلّما تجد في الواقع رجلا مثله أو يشبهه.

ظل يرفض أخذ المال مقابل السلع التي آخذها من بقالته، وحالما بدأت أعزف عن أخذ ما احتاجه منه، بدأ يأخذ مني مبلغا رمزيا حتى يرفع عني بعض الحياء والحرج، ورغم هذا لم يرقني الأمر.

ضقت بحيائي وأثقلت وطأة الحرج وجهي وكاهلي.. أضطررت لمغادرة صديقي والإحجام عن شراء ما احتاج إليه منه دون أن أقطع حبل المودة والسلام عليه مع يمين أطلقه كل يوم أن أموري على خير مايرام.

صرت أتعامل مع صاحب البقالة الأخرى لأتجنب صديقي الحرازي، ومع ذلك صار يتصل لي ويقدم لي وجبات جاهزة يحضرها من بيته لا من بقالته، ويقسم معها أيمان الود والمحبة أن أخذها.. تملكني هذا الرجل بكرمه ونبله وشهامته وسمو ودماثة أخلاقه.

احترت كثيرا وصرت أفكر بمغادرته مغادرة المحب دون عودة، ولكن كان للأقدار كلمة أخرى وقول فصل سأعود إلي الحديث عنها في مناسبة أخرى.

***

تعاملت مع صاحب البقالة الأخرى.. كنت اعتقد أنه أمريكي من أصول هندية أو غيرها.. لم أهتم لأي بلد ينتمي إليه طالما هو لا يعرف اللغة العربية.. احاول أن أتفاهم معه ببعض الكلمات التي احفظها باللغة الإنجليزية، ولكن أحيانا أفشل في التعامل معه بالكلمات القليلة التي أحفظها؛ فاستعين بالإشارة تارة وبالمناولة تارة أخرى.

العجيب أن بعض الكلمات الإنجليزية التي كنت أحفظها وأطلقها باللغة الإنجليزية لم يكن يفهمها صاحب هذه البقالة.. فكلمة و “وتر water” الإنجليزية في بريطانيا نجدها في الإنجليزيه الأمريكية “ورر” فألجأ للتوضيح باستخدم لغة الإشارة او اتناولها باليد ليفهم صاحبها ماذا اريد.

كنت أعتقد أن لساني العربي غير معتاد على الإنجليزية فضلا عن مخارج ألفاظها، والحقيقة أن لساني لا تجيد حتى مخارج الألفاظ العربية، وقد اتهمني أخي عبدالكريم يوما أنني حالما أقرأ ابخس بعض الحروف حقها في النطق، بل وآكل بعض الحروف فضلا عن مخارج الكلمات وتشكيلاتها. وإذا كان هذا حالي مع العربية فكيف سيكون حالي مع الإنجليزية، وإذا كانت اللغة الإنجليزية في أمريكا هي نفسها تختصر بعض الكلمات والحروف الإنجليزية السارية في بريطانيا؛ فكيف يكون الحال بلسان من لا يجيد الحديث بلغة بلده، فما البال بلغة بلاد غيره.. إنه دون شك وضع صعب ومعقد أو هكذا بدت لي الأمور. 

***

في يوم كنت مهموما ومشبعا بالقهر .. أحمل في يدي ملفاتي الطبية وأشياء أخرى ومتطيرا من دجال وكاذب، ومن جرأة نذالة تريد أن تسحقني بالإساءة.. عقلي كان شاردا في التيه ابحث عن مخرج من ورطة أعيشها ونذالة تحاول أن تستحكم حلقاتها، ومؤامرة خسيسة تنتوي النيل مني.. لا شرف فيها لخصومة ولا منازلة فرسان.. الوجع بالغ والجيد فارس تقتله الخساسة.

 وصلت السكن الذي أقيم فيه.. بحثت عن تلفوني فلم أجده.. احسست أن ذاكرتي هي تلفوني وأنني قد صرت بلا ذاكرة.. سألت صديقي في السكن عما إذا كان رقمي لديه ليتصل برقمي حتى أتأكد أن تلفوني هل هو في الغرفة أم لا؟ فأخبرني أن رقمي ليس لديه، والأسف أنني لم أكن حافظا لرقمي.. أخبرته أن يتصل لزميلي الآخر الذي يقيم معي في نفس المكان، فتم الاتصال لأكتشف أنني أضعت تلفوني، وأن لا أحد يرد عليه. 

رجحت أن أكون قد فقدته في باب العمارة حالما كنت محملا بأشيائي وافتح بابها بالمفتاح.. هرعت إلى الباب فلم أجد له عينا أو بقايا أثر.. هرعت مسرعا إلى البقالة التي أخذت بعض الأغراض منها، وبدلا من أن أتكلم مع صاحبها بالإنجليزية تكلمت معه بالعربية المستعجلة دون ترتيب أو شعور، وبطريقة تعتريها الهلع والعجل:
هل نسيت تلفوني هنا؟؟ هل وجدت تلفوني..؟! 
فأجابني بالعربية انت من أين؟!
 قلت له: من اليمن.
قال: من أين من اليمن؟!
 قلت له: من تعز.. 
ثم سألته: وأنت من أين؟!
 أجابني: من رداع.. 
قال: كنت اعتقد انك هندي خلال الفترة الماضية التي كنت تتعامل معي فيها..
ضحكت وقلت له: انا اعتقدت ايضا انك هندي..
 قرحنا ضحكا وناولني تلفوني .. 
ابتهجت نفسي وشعرت بالإرتياح بعد ضيق وشدة.

قلت لنفسي الإنسان يستطيع أن يحول حتى نكباته إلى فرص، بل وأيضا عبر وعضات وتعارف ومعرفة جديدة.

طلبت منه أن آخذ معه صورة..
فاجأني وهو يقول على نحو صارم:
لا .. ممنوع التصوير.. نظف تلفونك من الصور.. من الأغاني.. من الفيديوهات.. الصور والأغاني حرام.. أتذكر عذاب القبر.. هل سمعت عن الفنانة المصرية ماذا جرى لها في القبر.. نظف تلفونك.. لا تبقي فيه صورة أو أغنية أو فيديو .. كل واحد يجهز نفسه للرحيل.. في أي وقت ممكن يلقاك الموت فيه.

سألته عن اسم هذه الفنانة المصرية؟
فأجابني أنه لا يتذكر، ولكنه سمع ذلك في “اليوتوب”
سألته: انت الأن من صدقك؟!
فأقسم يمين واثنين وثلاثة
سألته: كم لك هنا:
أجاب: أنا ولدت هنا.
خرجت مذهولا و مفزوعا ولم أعد إليه.

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى