مذكرات

عادل مات

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

“عادل مات.. عادل مات”.. هكذا جاءني الخبر من زوجتي المفجوعة عبر اتصال لها .. خبر مُقتضب وفيه كثير من الهلع.. جملة واحدة مكونة من كلمتين، تكررت على لسانها مرتين وثلاث، من غير مقدمات ولا ختام.. تدفّق صوتها المتفجر بالوجع والمكتظ بالحزن العميق.. كان وقعه على وجداني لأول وهلة كالصاعقة أو ربما بما يشبه الزلزلة.

بدا لي المصاب جلل.. إنه أكبر منّي ومن قدرتي على تحّمله.. بدت اللحظة على نفسيتي داهمة. وأكثر منها وجدتُ نفسي موزعاً بين إحساسي بالصدمة المريعة، وذهولي ربما الغير مستوعب صدقية الخبر، واضطرابي الذي بدا خارج السيطرة، وشعور كثيف تملّكني بما هو مريع ويفوق طاقة ما أحتمل.

حدث هذا بعد خمسة عشر يوماً من الاعتداء عليه، وضربه من قبل أشخاص كُثر، جلبهم ابن مسؤول كبير في وزارة الداخلية.. إنه المسؤول المباشر والأول المناط به مسؤولية حراسة المنشآت والشخصيات الهامة. أمّا أنا فكان بالنسبة لي ذلك المراهق قدراً أسوداً يشبه عزرائيل غيّب عنّي عزيزاً حميماً ومخلصاً جمّاً، دون ذنب أو جريرة أو اقتراف جريمة بحق الوجود، أو بحق أحد فيه.

أحسستُ أن صدري لا يحتمل هول الفاجعة.. شعرتُ أن لا مساحة في نفسي تتسع لمثل هذا الحزن الكبير، أو هذا الاحتمال الفاجع والمريع الذي يزلزلني.. أبت نفسي أن تقبل هذا الاحتمال أو تصدّقه.. حاولتُ أن أقطع ما سمعتُ، وأطلب من زوجتي أن تتأكد وتقول أي شيء آخر غير أنه مات، ولكنّها ظلّت والدموع تنهمر تردد نفس الجملة بمزيد من الأسى البالع والهلع المنفلت، وصوتها المفجوع: “عادل مات.. عادل مات”.

لم يعد يجديني التشكيك بيقين زوجتي أن عادل مات.. بدت لي بيقين قاطع وممتلئ، وأكثر منه لم تعطني فسحة إثارة أي شك بيقينها الراسخ.. إنه أخوها.. إنه الأن أمام عينيها جُثّة هامدة دون نَفَسٍ أو حراك، وهي المفجوعة به، وربما قد حاولت هي نفسها أن تلتمس أي شك، ولكنّها لم تجد غير حقيقة موته عارية. ورغم كل ذلك ظل يجوس في صدري احتمال ضئيل فيه “لعل” و”عسى” و”ربما”.. هرعتُ مسرعاً إلى البيت لأتأكد من حقيقة ما حدث، فوجدت عادل بالفعل قد مات إلى الأبد.

***

كان الوقت في حدود الساعة التاسعة أو العاشرة صباحاً.. كنتُ قد غادرتُ المنزل إلى مجلس النواب. فيما ابنته الصغيرة كانت تداعبه وتلاعبه وتحاول إيقاظه حد العبث، ولكنّه كان دون نفس أو حراك.. لا أعرف كيف كانت صغيرته تحاول أن توقظه حيث لم تكن تعلم أنه قد مات، ربّما قد أنقضى على موته سويعات خلت!

رحل عادل بصمت غريب.. أنسل من هذه الحياة انسلالاً دون أن نسمع منه آه أو احتظار.. غادر الحياة بغتة وبخفة قط مرق سريعاً بلمح البصر.. لم يستغث، ولم يطلب من أي منّا نجده أو حياة.. كأنه كان لا يريد إزعاجنا، أو أراد أن يخفف عنّا لحظة الرحيل.. لا يريد أن يعذّبنا ونحن نراه وهو يحتضر ويغيب عنّا إلى الأبد.. شق عليه أن يرى في عيوننا لحظة الفراق والعذاب والهلع.. فاضت روحه بهدوء تام.. صعدت كنسمة بحر إلى السماء.. أرادت أخته أن تصحِّيه من نومه ومعها زوجته فوجدتاه قد فارق الحياة دون عودة.

بعجل نقلته على الفور إلى المستشفى الجمهوري بالعاصمة صنعاء، وهو نفس المستشفى الذي كنتُ قد أسعفته إليه في نفس يوم الاعتداء عليه، وتم تأكيد خبر وفاته على نحو يقيني وجازم، فيما روحه ظلّت تبحث عن العدالة المفقودة في وطن مُستلب، فلم تجدها ولم تجده.

أصابني حزن عميق واكتئاب عارم وخيبة من العدالة بدت لي كبيرة ومهولة.. أحسستُ أن لي دخلاً في الأمر أو بعض سبب بصورة أو بأخرى.. ظل هذا الشعور يعاودني ويؤنّب ضميري تحت وطأة تأثير حساسيتي الكبيرة التي أرّقتني كثيراً، ولازمتني سنوات طوال.

كنتُ أعتب على نفسي داخلي وأقول: لو لم أتخذه مرافقاً وسائقاً لي لما حدث له هذا المكروه الذي أصابه.. الأقدار صنعت هذه النهاية له على نحو تجعلني أشعر بذنب وندم.. أتألم كلما جاءني طيفه في صحو أو نوم.

ظلّت تحتدم في أعماقي الأسئلة الكبيرة عن الحياة والموت والأسباب.. أحسستُ أن حياتي باتت تافهة لأن شخص ذهب بسبها إلى غير رجعة.. افتراضات قدرية كانت تحمّلني مسؤولية ما حدث بهذا الحد أو ذاك.. أحسستُ أن حياتي باتت عديمة القيمة والفائدة وقد أهدرت حياة مثلها أو بسببها.

منطقتُ الأقدار لتصيبني إحداها بشظية في مكين من روحي المتعبة.. علاقة سببية بوجه ما تُحمّلني شيئاً من المسؤولية بهذا القدر أو ذاك.. بدت لي الأقدار كالنرد وهي تتصادم ببعضها، وكان الحظ السيء حصادها وخيبتها وختامها.. ظل وسواساً قهرياً يربكني كلما تذكرته.. عقدة ذنب تلاحقني وتحمّلني بعض مسؤولية ما حدث.

كنتُ أقول لنفسي: لو لم أختاره أصلا مرافقاً لي ولم أعمل على اصطحابه معي وأجعله سائقي ما حدثت هذه النتيجة السيئة التي أدّت إلى إزهاق روحه.. خالجني إحساس أنني ارتكبت خطيئة، أو كنت سبباً في حدوثها بوجه أو بآخر.. لقد بديتُ أمام نفسي وأنا أعاتبها بمسؤولية الممسك بعصا “البلياردو” الذي أخطأ صاحبها في ضرب الكرات على نحو أدّت إلى تلك الخسارة الفادحة وهي إزهاق روح إنسان بريء وطيب ويستحق الحياة.

لقراءة وتحميل كتاب فضاء لا يتسع لطائر انقر هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى