مذكرات

(3) من هذا الواقع أتيت.. فقر وبؤس ! أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من هذا الواقع أتيت.. أحمد سيف حاشد

(3)
من هذا الواقع أتيت.. فقر وبؤس !

أحمد سيف حاشد

سكانُ أريافنا فقراءُ على العموم، وبعضهم مُعدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال وكُثر المحال.. يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس، من أجل لقمة عيش كريمة يكسبونها بكدهم وعرق الجبين.. لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تُدمي القلوبَ والأظافر.

جبالنا وعِرةٌ وشامخة، وطينها قليل وعزيز.. الأشجار تغالب الحمأ والظمأ، وجذور السِّدر والعوسج و”العسَق” تشق لها طريقا صبورا ومتحديا الصخر والجبل.. إنه الصراع مع أقدارها وتحديها المستميت والمنتصر..

الزراعة موسميّة، وأغلب المواسم “تَخيب ولا تصيب”.. كثير من السُّحب كاذبة، وإن بَدَتْ وكأنها مثقلة بالغيث الغزير، ثمَّ تكتشفُ بعد فترة لا تطول أنّها خادعة لا تحمل غيثا ولا مطرا.. مقالب الأقدار كثيرة؛ قليلة هي المواسم الّتي أوفَتْ وجادت بالغيث من موعد البَذْر حتى موعد الحصاد..

أيام النزاف الماء شحيحٌ.. النّسوة يخُضنَ معاركَ ضروسةً ولساعاتٍ طوال؛ من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة.. المرأة تقضي -أحيانا- ثُلثَ نهار أو ربع ليلٍ؛ لتظفر بدبّة ماءٍ واحدةٍ لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النِّساءُ لا يظفَرنَ بالماء أيام النّزاف إلّا وقد بلغت قلوبُهنَّ الحناجر..

كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجرا، وسوء التّغذيةِ رفيقٌ حميم، والموت طليقٌ يخطَف مَن يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموتُ ويشتهيهم أطفالٌ وصبية، وشبابٌ بعمر الزّهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقرٌ ومرضٌ وجهل، وزائد عليهن كُربة..

أيّامُ عيدِ الفِطر وعيدِ الأضحى هي أيّام فرح العام، وقلّما يجد الفرح متّسعا في غيرها.. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة، مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثمّ يحتفظون بها لعيد الأضحى؛ ليرموا “عصفورين بحجر واحدة” كما ورد في المثل.. قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.. الثياب المشتراة متواضعة ثمنا وجودة، ولا نتابع نوعا أو “ماركة”..

في أريافنا، كان الصراع مريرا من أجل الحياة.. الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتاب، ولا يفارق، لكأنه رفيق حميم، أمّا النادرُ فلا حكم له.. أغلب النّاس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضًّأن في العام مرتين؛ وربما يتذوقونه في مولد أو موت أو ولادة.. وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام الفرح، فما عليك إلّا مُلازمةُ المرض، وحنون يحبُّك ويهتمُّ بِك.

***

أمَّا أنا فكان لا يروقُني أن تُذبح من أجلي ديك أو دجاجةً، وربما كابرت يوما وأمتنعت وأمعنت بالتحدي، وقلت حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي، وبلغ السلُّ مخَّ العظام.. كان وجداني حساسا وكنتُ في وجداني غريق، لا أريد أن أكون سببا في إقصار عمر أو إزهاق روح..

لطالما أحجمت على ما أشتهي؛ لأطيل عمر ديك أو دجاجة، وأشعر بسعادة هذا البقاء الذي أحجمُ قدر ما أستطيع من التورط في وضع نهاية لحياة يمكنها أن تطول، ولطالما أحسست بهذا الشعور الكثيف..

ولكن أبتكرت أمي طريقة، أو لعلها نقلتها، أو تذكرتها، أو استدراج وترغيب في مغالبة رفضي لذبح ديك أو دجاجة، فتخبرني أنها إذا ذبحت ديك أو دجاجة تستطيع أن ترى من الذي سيموت قريبا، وذلك من خلال معاينة ثقب في عظمة صدر الديك أو الدجاجة، والتي ستخبرنا إن كان الميت القادم صغيرا أو كبيرا.. فنظل نترقب من سيموت في القريب.

وأيضا كانت أمي تعاين عظمة الصدر فإن كان يميل إلى الحُمرة فتقول أنه سيحدث مطر في الأيام القليلة القادمة.. وكانت تفعل الشيء نفسه عندما تكون الذبيحة “ماشية” من خلال عظمة في الذبيحة نسميها “المكحفة”.. أذكر إن يوما أخبرتنا أن واحد كبير وعظيم سيموت، فمات الرئيس جمال عبدالناصر بعد أيام أو أسابيع قليلة وكنا نحبه كثيرا..

كانت أسرتنا كبيرة فيجري توزيع لحم الديك أو الدجاجة بين أخوتي وأبي وتخصني بصدر الدجاجة أو بأكثره.. فتقول أمي الجخجوخ للشيبة الملدوخ، والرقبة لصاحب العتبة، والجناح للولد الطماح، ولم أعد أذكر البقية وهو الصدر الذي نسميه “السكاب” والأرجل والرأس، ولكن كانت تخص أبي بالجخجوخ وربما تضيف إليه شيئا آخر..
***
وعندما شببت وكبرت وفكرت أدركت أن تغيير الوعي أمر صعب ومعقد ويحتاج للكثير، وأن تغيير واقع كهذا يفوق قدرتي، وليس بإمكاني أن أرسي قوانيني في عالم يعج بالفوضى والعبث، وعادات وأعراف وتقاليد ثقيلة تأصلت في مجتمع لآلاف السنين..

من هذا المجتمع ومن هذا الواقع الصعب أتيت.. مجتمع أتيت إليه مُرغما أو مرتابا غير مختار.. مجتمع يحتاج إلى ألف معجزة وألف سنة ليكون على النحو الذي أحلم.. أحلم بعالم آخر غير متحقق، وغير مقدور على الوجود..

***

سكانُ أريافنا فقراءُ على العموم، وبعضهم مُعدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال وكُثر المحال.. يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس، من أجل لقمة عيش كريمة يكسبونها بكدهم وعرق الجبين.. لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تُدمي القلوبَ والأظافر.

جبالنا وعِرةٌ وشامخة، وطينها قليل وعزيز.. الأشجار تغالب الحمأ والظمأ، وجذور السِّدر والعوسج و”العسَق” تشق لها طريقا صبورا ومتحديا الصخر والجبل.. إنه الصراع مع أقدارها وتحديها المستميت والمنتصر..

الزراعة موسميّة، وأغلب المواسم “تَخيب ولا تصيب”.. كثير من السُّحب كاذبة، وإن بَدَتْ وكأنها مثقلة بالغيث الغزير، ثمَّ تكتشفُ بعد فترة لا تطول أنّها خادعة لا تحمل غيثا ولا مطرا.. مقالب الأقدار كثيرة؛ قليلة هي المواسم الّتي أوفَتْ وجادت بالغيث من موعد البَذْر حتى موعد الحصاد..

أيام النزاف الماء شحيحٌ.. النّسوة يخُضنَ معاركَ ضروسةً ولساعاتٍ طوال؛ من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة.. المرأة تقضي -أحيانا- ثُلثَ نهار أو ربع ليلٍ؛ لتظفر بدبّة ماءٍ واحدةٍ لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النِّساءُ لا يظفَرنَ بالماء أيام النّزاف إلّا وقد بلغت قلوبُهنَّ الحناجر..

كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجرا، وسوء التّغذيةِ رفيقٌ حميم، والموت طليقٌ يخطَف مَن يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموتُ ويشتهيهم أطفالٌ وصبية، وشبابٌ بعمر الزّهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقرٌ ومرضٌ وجهل، وزائد عليهن كُربة..

أيّامُ عيدِ الفِطر وعيدِ الأضحى هي أيّام فرح العام، وقلّما يجد الفرح متّسعا في غيرها.. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة، مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثمّ يحتفظون بها لعيد الأضحى؛ ليرموا “عصفورين بحجر واحدة” كما ورد في المثل.. قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.. الثياب المشتراة متواضعة ثمنا وجودة، ولا نتابع نوعا أو “ماركة”..

في أريافنا، كان الصراع مريرا من أجل الحياة.. الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتاب، ولا يفارق، لكأنه رفيق حميم، أمّا النادرُ فلا حكم له.. أغلب النّاس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضًّأن في العام مرتين؛ وربما يتذوقونه في مولد أو موت أو ولادة.. وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام الفرح، فما عليك إلّا مُلازمةُ المرض، وحنون يحبُّك ويهتمُّ بِك.

***

أمَّا أنا فكان لا يروقُني أن تُذبح من أجلي ديك أو دجاجةً، وربما كابرت يوما وأمتنعت وأمعنت بالتحدي، وقلت حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي، وبلغ السلُّ مخَّ العظام.. كان وجداني حساسا وكنتُ في وجداني غريق، لا أريد أن أكون سببا في إقصار عمر أو إزهاق روح..

لطالما أحجمت على ما أشتهي؛ لأطيل عمر ديك أو دجاجة، وأشعر بسعادة هذا البقاء الذي أحجمُ قدر ما أستطيع من التورط في وضع نهاية لحياة يمكنها أن تطول، ولطالما أحسست بهذا الشعور الكثيف..

ولكن أبتكرت أمي طريقة، أو لعلها نقلتها، أو تذكرتها، أو استدراج وترغيب في مغالبة رفضي لذبح ديك أو دجاجة، فتخبرني أنها إذا ذبحت ديك أو دجاجة تستطيع أن ترى من الذي سيموت قريبا، وذلك من خلال معاينة ثقب في عظمة صدر الديك أو الدجاجة، والتي ستخبرنا إن كان الميت القادم صغيرا أو كبيرا.. فنظل نترقب من سيموت في القريب.

وأيضا كانت أمي تعاين عظمة الصدر فإن كان يميل إلى الحُمرة فتقول أنه سيحدث مطر في الأيام القليلة القادمة.. وكانت تفعل الشيء نفسه عندما تكون الذبيحة “ماشية” من خلال عظمة في الذبيحة نسميها “المكحفة”.. أذكر إن يوما أخبرتنا أن واحد كبير وعظيم سيموت، فمات الرئيس جمال عبدالناصر بعد أيام أو أسابيع قليلة وكنا نحبه كثيرا..

كانت أسرتنا كبيرة فيجري توزيع لحم الديك أو الدجاجة بين أخوتي وأبي وتخصني بصدر الدجاجة أو بأكثره.. فتقول أمي الجخجوخ للشيبة الملدوخ، والرقبة لصاحب العتبة، والجناح للولد الطماح، ولم أعد أذكر البقية وهو الصدر الذي نسميه “السكاب” والأرجل والرأس، ولكن كانت تخص أبي بالجخجوخ وربما تضيف إليه شيئا آخر..

***

وعندما شببت وكبرت وفكرت أدركت أن تغيير الوعي أمر صعب ومعقد ويحتاج للكثير، وأن تغيير واقع كهذا يفوق قدرتي، وليس بإمكاني أن أرسي قوانيني في عالم يعج بالفوضى والعبث، وعادات وأعراف وتقاليد ثقيلة تأصلت في مجتمع لآلاف السنين..

من هذا المجتمع ومن هذا الواقع الصعب أتيت.. مجتمع أتيت إليه مُرغما أو مرتابا غير مختار.. مجتمع يحتاج إلى ألف معجزة وألف سنة ليكون على النحو الذي أحلم.. أحلم بعالم آخر غير متحقق، وغير مقدور على الوجود..

***

 يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى