أيمان الوحدة
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كان لابد أن يمر وقت لأرمم ما أصاب روحي من تلف بسبب ذلك الموقف الصادم في مستهل إقامتي الأولى في صنعاء.. أحسست أنني أحتاج إلى وقت كاف لأتعافى، وتتشافي نفسي منه.. وقت كاف لردم ما تركه ذلك الموقف من هوة بيني وبين “المطري” الذي تسبب بألم وجرح عميق رفيقي المثالي وقدوتي الطيب جازم العريقي..
لم أعد أذكر على وجه التحديد كم أخذ هذا التعافي من الوقت، ولكن أغلب الظن كان طويلاً نسبياً بمقياس ما أعرفه عن نفسي من نسيان في جلّه يأتي سريعاً، أو غالباً لا يطول، حتّى وإن كان بعضه موجعاً وجسيماً.
تواصلتُ تلفونياً بمحمد المطري، وأبلغته أنه معزوم عندي يوم الخميس غداء وقات.. شعرتُ أنني مديون له بجميل حالما أكرمني بشراء القات في المّرة السابقة والتي أعقبها ما حدث بيننا.. أردت أن أرد له الجميل مضاعفاً، ولم أكن أعلم أنه سيتبدل الحال، وسيلحقني من الخجل أشده، ومن النزق ما هو زائد ومضاعف.
كنتُ قد اخترتُ الموعد يوم الخميس للمقيل؛ لأن من نصف نهاره تبدأ فسحة الأسبوع الذي سأحاول أن أعيد جميلاً مازال ديناً على كاهلي، وفي الجمعة أحاول التعافي من سهر وإرهاق، وربما أحتاج سبتاً واحداً لأبرأ منه.
كان اليوم الذي أتعاطى فيه القات، يحتاج إلى يومين أو ثلاثة لأتعافى من آثاره… كنتُ أحشد أسبابي وأوغل في الإصرار على عدم تعاطي القات، فإن أُرغمتُ على مقيل، ولم أجد مناصاً ولا منجا للتنصل منه، أجد نفسي في الأيام التي تليه مُتعباً ومرهقاً للغاية.
***
حددتُ للمطري موعدنا ؛ فحاول أن يعتذر.. حاول التخلُّص والتملُّص بأكثر من عذر.. لم أقبل له عذراً أو محاولة.. لم أترك له حيلة.. ردّيتُ له أيمانه المغلّظة الصاع صاعين.. كررتها وأشبعتها بيمين “الحرام والطلاق”.. لقد كان كريماً معي في القات يوم استضفته في المرة السابقة.. لاشك إن ذلك القات كان غالياً وكثيراً ويليق باحتفائه بي وبمجلس مقيل افتتحناه معاً، رغم عدم درايتي بالقات وأنواعه، ومراراته المقذعة التي لسعت راسي وبلغت أطرافي.
بعض الأيمان في صنعاء يتم اطلاقها عندما يريدون قطع سماع العذر، أو رفض سماع الاعتذار ابتدأً.. إغلاق مُحكم في وجه سماع أي شيء من هذا القبيل.. لا خيار لك إلا الإذعان والموافقة؛ فتجد نفسك مرغماً على الاستجابة للطلب دون جدل أو إطالة.. الأيمان هنا تأتي وكأنها تقول لك: لا تحاول الاعتذار فقد قضي الأمر.
إنها الصيغة المدنية المقلوبة التي تشبه المقولة العسكرية “نفذ ثم ناقش”.. قياس مع الفارق، حيث يقصد بها هنا إكرامك، وتوفير خجلك، وتُطلق غالباً على سبيل المحبّة والبذل والكرم.. بدوتُ مع المطري حاسماً منذ البداية .. لم أترك له منفساً لعذرٍ، أو تململاً ينتهي بإفلات.
خرجتُ قبل ظهر الخميس بغرض شراء القات لي وللمطري، ولكن خبرتي في شراء القات مُقفرة تماماً، لا رجاء فيها ولا أمل، بل هي في الحقيقة صفر أكبر من جرّة الفول.. كنتُ أعلم أن جهالتي في شراء القات هي أضعاف جهالتي في تعاطيه.
زميلي وجاري العزيز منصر الواحدي الذي اعتمد عليه في غربة صنعاء بأشياء كثيرة، منها قدرته الفذة على التعاشر والولوج في محبة الناس، ولباقته ولسانه التي تقطر عسلاً مقروناً بحصافه وتروٍ، ولكنه لا يفدني هنا فيما أسأل عنه..!! إنه لا يخزّن القات، بل لم يذقه في حياته على أي نحو كان.. لذلك خرجتُ من البيت وحيداً كالهائم على وجهه.. أسأل نفسي بحيرة وربكة: إلى أي سوق سأذهب؟ وأين أجد القات الذي أجد فيه وجهي أبيضاً أمام “المطري” الخبير بالقات وأنواعه، والضليع في تعاطيه؟!
خطرت لي فكرة سمعتها يوماً من قبل، يبدو أنها ألقيت من أحدهم عرضاً على سبيل التبجح، دون أن أعلم أنها كذلك.. “قات المشايخ”.. “سوق الشيخ عبد الله” في الحصبة.. بدوتُ وأنا أستذكرها كمكتشف لعالم جديد، وبذاكرة لا تخذل صاحبها عند اللزوم.. أحسستُ لحظتها أنني مدعوم بقرين محب، لا يتركني فريسة جهلي عند شدّة أو ضيق.
***
دخلتُ سوق قات الشيخ عبد الله.. وجدت لدى “المقاوته” حفاوة وحرارة في الاستقبال.. أحسستُ وكأنني طاؤوس يرونه للمرة الأولى.. بادلتهم وداً وعجباً على ما ظننتُ، واستغرقتني معها دهشة وذهول.. بعضهم يدعونني بلطف، وأكثرهم بصخب وإلحاح.. كل يريدني أن أشتري منه.. كل ينادي من اتجاهه بباذخ من حفاوة.. عروضهم تعترض وجهتي على نحو لحوح.. أحسستُ أنني قد جلبتُ إلى صخب السوق جلبة وصخب وضجيج إضافي.
شعرتُ وكأن “المقاوتة” يعرفونني من زمن بعيد بعد انقطاع دام.. ناداني أحدهم باسم “محمد”.. استغربتُ من تلك المقاربة بالاسم، بل ظننت أنه قد قالها أحمد لا محمد، ولكنني سمعتُ اسم محمد لأنني لم ارهف السمع، أو أن الضجيج حال دون السماع الصحيح.. في كل حال تضاعفت دهشتي.
انتابني شعور أن لا أكسر خاطر أي بائع.. جميعهم يرحبون بي، ويظهرون من الود ما يفوق خجلي وتحمُّلي.. أحسستُ برحب وسعة أكثر من تلك التي استقبل بها يوما حكام صنعاء حكام الجنوب في مستهل تحقيق وحدة اليمن.
شعرتُ ببعض من ذنب وتأنيب ضمير.. رأيتُ من العدالة أن أعود إلى أول عارض للقات في مدخل السوق.. قلتُ لنفسي ما كان عليّ تجاوزه وأكسر بخاطره، وقد سمعته يحلف الأيمان الغلاظ، و يثنِّيها بالحرام والطلاق أن قاته “غيلي”، وأنه أحسن قات في السوق كله.
ظننتُ أيضاً أن هذا القات يُقطف من مسقى الغيول.. اعتقدتُ بعد أيمان غلاظ من صاحبه أنه بالفعل أفضل قات في السوق كلّه.. أعملتُ المثل القائل: “يعرف الكتاب من عنوانه” وظننت أن الاسم عنوان.. تذكرتُ خرير وانسياب ماء الغيول.. اجتاحني كثير من الحنين والانجذاب إليه بسبب اسمه اللافت.
الحقيقة أنا لا أعرف القات “الغيلي” ولا أميّزه عن غيره.. أنا استشكل القات نفسه، وأستصعب تمييزه عن بعضه، بل تلتبسُ لدي أوراق القات عمّا يشابهها من أوراق الشجر؛ ولكن اسم القات المدعوم بأيمان البائع، قد جعلتني أعود إليه من أقاصي السوق.. سرّته عودتي واستقبلني بوجه جذل.. أشرقت ناصية جبهته بغبطة وحفاوة.
لمحتُ القات من منظره الخارجي لامعاً يخطف النظر من بعيد؛ ظننت أن هذا تأكيد لجودته.. لم أفتح صرة القات مكتفياً بالثقة المعززة بالأيمان المغلّظة.. حدثتُ نفسي:
– من غير الممكن أن يطلّق الرجل زوجته من أجل أن أشتري منه صرة قات.. هذا البائع لا يكذب.. لا شك أنه جاد وصادق وأمين.
سألتُ البائع عن سعره، فأجابني؛ ولكن كان السعر الذي أعلنه قطعة من نار؛ وما أن لاحظ انقباضي من السعر حتى أخذ الإطراء على القات، والخوض في تفاصيل شرائه وما يلحقه من تكاليف، ليبدو لي الربح إما ضئيل جداً أو معدوم إن لم يكن في القيمة خسارة.. تعاطفتُ معه، بل أعلنت انحيازي إليه ضد نفسي.
بدا لي أن تعب البائع يستحق أكثر مما قال، فدفعتُ له أكثر مما طلب، بعد أن منحته ثقتي، وتوكلتُ على الله.. تغاضيتُ عن أخذ باقي النقود إكراماً لتعبه الذي كسب تعاطفي الجم، وملأتني الثقة أنني أيضاً اشتريتُ أحسن قات في السوق لصديقي المطري الذي يستحق كل غال.
***
عدتُ من “المقوات” إلى البيت غبطاً ومنتشياً.. بدوتُ أمام نفسي أشبه بفارس تجاوز خسارته بكسب المعركة.. بدوتُ وأنا متأبط القات ومجفلٌ إلى البيت، أشبه بجنرال عاد من الحرب منتصراً يحمل إكليل الغار.
حادثت نفسي وقلت:
– ضيفي المطري خبير في القات، ولاشك أنه سيشعر بكثير من الامتنان نحوي، بل أنا متأكد أنه سيطلق إطراءه على القات، وسيمتدح ذوقي وحذاقتي في شرائه، وسأثير عجبه لعلمه أنه لا صلة لي ولا معرفة بالقات، ومع ذلك اجترحت معجزة حالما استطعتُ أن اشتري أجود القات والذي دون شك سيطربه، ويطيّب ولعته؛ ومع ذلك لن يخلو من ظن أنني استعنت بصديق في الشراء، ولكنه سيتفاجأ بتأكيدي أنني أنا بالفعل من اشتريت القات لا أحد سواي.
وفي طريق عودتي اشتريت سمكاً و فاكهة.. استعجلت الغداء، والاتصال بالمطري بسرعة الحضور.. وبعد ساعة حضر الضيف .. يا مرحباً بالضيف على العين و الرأس.. قدّمنا الغداء رز وسمك وكان المسك فاكهة شهيّة.
ظننتُ أن هذا الغداء كان كافياً، و أن واجبي فيما يخص الغداء قد انتهى لا سيما أنه فاض عن الحاجة.. لم أكن أعلم أن “السلتة” أو “الفحسة” أو على الأقل “العصيد”، ضرورية ليطيب الضيف ومقيله وقاته.. اعتقدت بهذا الغداء “العدني” أني قد قمتُ بما يجب وأكثر، غير أن ضيفي بمجرد تقديم الفاكهة، بدا في حال لم استوعبه، ولكنني أحسست أن شيئاً ما يعاجله.
حاولتُ أفرد أمامه القات لأعطيه قسمه، وبمجرد أن لمح القات من بعد أمتار، نهض من مجلسه كزرافة، وهو يرمق للقات من علو بنظرة أحسست أنها لا تخلو من غموض؛ ثم استأذن منّي للخروج مدة ربع ساعة ليذهب يحاسب صاحب المنجرة القريب من مكاننا؛ لأنه يوجد عنده حساب، وقد وعده أنه سوف يمر عليه بعد الظهر ليسدد الدين الذي عليه.
فاستدركت بتوصيته أن لا يتأخر، ولكن ضيفنا تأخر أكثر من الساعة، وعاد متأبطاً قاتاً طويلاَ وكأنه مدفع هاون في رديفه الذي كان وهو ذاهب معطوفاً على كتفه بأناقة ومسدولاً على ظهره بانسياب.
صرختُ في وجهه باستغراب:
كيف تشتري قات وأنا قد اشتريت قاتاً لي و لك..!!
فرد بسخرية مفخخة:
– شفت النسوان اللي يبيعن اللحوح في الحصبة باب سوق الشيخ عبد الله..!
أجبته: نعم.
– قال: هن يخزنين من هذا القات الذي اشتريته.
صدمتني فجاجة الضيف ومصارحته الصارخة، وحاولتُ أن التمس له العذر كونه صريحاً ومتصالحاً مع نفسه، أو أن هذه هي طبيعته التي لا تتزحزح عنه، ومع ذلك أحسستُ بالحرج الشديد و الخجل الأشد وطأة.
تفاجأتُ أكثر وهو يكز أسنانه ويعلمني أنه تغدّى أيضاً في الخارج مرة ثانية؛ لأن ما قدمته له ليس بغداء.. استحيت أكثر، بل شعرت أن الحياء يأكل وجهي، بل ويكاد يبتلعني من رأسي إلى أخمص قدمي.. تمنيت أن تعصفني عاصفة خلف الأرض، أو تخسف بي إلى غيهب.
عدتُ لأحاول إقناعه أن القات الذي اشتريته غيلي وإنه ممتاز، وعندما فتحتُ مرابطه بثقة لأستعرضه وأثبت له صحة ما أقول؛ رأيت تفاصيله التي لم أرها من قبل، بل شعرتُ أني جلبت خرابة لا قات.. غش فاحش تحت ما هو ظاهر، فيما ضيفي أخذ هذا القات و رمى به بعيداً عنّا، وقسم قاته بيننا، وحلف بالطلاق أن لا أخزن إلا منه.
شعرتُ يومها أن وقعتي سوداء لا يبيّضها في صنعاء أي غفران، ووعدت نفسي أن لا أكررها، وحلفتُ أن لا أعزم مخلوقاً بعدها لا غداء ولا قات، ولكن للأسف تكرر بعدها ما هو أسوأ منها.
***