مذكرات

الأشباح بين الواقع والوهم (1) عجوز شمطاء في المرآة .. جربوها.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي ..حكايتي مع المرآة

السلسلة العاشرة

أشباح بين الواقع والوهم 

أحمد سيف حاشد

(1)

عجوز شمطاء في المرآة

حالما كان عمري بحدود الخمس أو الست سنوات كانت أمي تحذّرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو لي عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة التي صارت في متناول يدي؟!

كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي ذلك بوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة، وخلوتي التي تحيط بي من كل اتجاه.. يجب اغتنام هذه الفرصة، وأن لا أهدر لحظة منها.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع يمنح المعرفة قيمة ومهابة، واستحثاث لحوح نحو مزيد من الاكتشاف والمعرفة..

اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت بين الخمس والست سنين أو ما يقارب هذا السن.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقتربُ منها رويدا، مدى كثيف قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، وإن بديت اليوم في وجه ما متجها نحو الكهولة والتلاشي، فأتمنى أن يكون مسك الختام خبرة وتجربة وحكمة..

كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع أن أراه في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة، وقد تمنيت يومها أن تكون المرآة قد خلقها رب الخلائق عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..

***

 

عندما وجدت الخلوة والفراغ والوقت الكافي لإشباع رغبتي وفضولي، حدث لي شيئا غريبا لازلتُ أذكره إلى اليوم.. كنتُ في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم عنّي بعيد ومهجور.. كانت الحجرة مسقوفة أكثر من الثلثين، والبقية دون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف.. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن تلك المرآة  كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلّتنا كثير.. عوالمي التي تخصّني كثيرة، والمرآة عالم قائم بذاته، وقد قيل فيها الكثير من عهد الأسطورة والخرافة إلى عصر الحداثة وما بعدها، ولازال ما نجهله أكثر مما نعرفه بكثير..

لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. كانت غفلة أشبه بالغواية.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغلّيت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت ممكن ومتاح..

كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهّم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزُم شفتاي و أمطّها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي رغبة بالمعرفة لا بالنرجسية.. أغمز وأحملق وأبحلق وأمعن وأركّز النظر.. لو رآني أحدهم أو وقف على ما أفعله لأنفجر ضاحكا،  وأنفجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة.. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه يشبه وجه “نعمة” التي كانت تسكن في بيت متواضع تحت دار “موجر” وكان يُنسب لها بعض جنون، بل هو وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقّدة التضاريس وشديدة الانحدارات..

وجه ألقى في نفسي الرعب والزلزلة، وحفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرّجا بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة وعلى نحو أشد وأكثف من مدرجات جبل تتزاحم فيه الانحدارات والأخاديد.. وجه صارم وجهوم ومخيف يصعقك بالصدمة والفزع والرعب من أول وهلة تراه..

كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة مذعور.. خرجت مرعوبا من الحجرة إلى السطح المكشوف والمجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. القطران يحمينا ويمنع عنّا الجن والسحر والمس..

كاد قلبي يقفز بهلع من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. استدعت ذاكرتي إثر المشاهدة تحذيرات أمي التي كانت تنصحني على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

ولكن من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها يوما أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي أن عقلها طار.. لعل نصيحتها جاءت على هكذا مبنى أو سماع..

عندما كبرت وجدتُ أن مثل هذا التحذير شائع ومعروف لدى كثير من الشعوب ومن زمن بعيد.. لقد كانت بالنسبة لي تجربة صادمة، وأقل ما يمكن أن أقوله عليها إنها “كانت تجربة مفزعة ومخيفة”..

ثمة اساطير وخرافات عديدة حول المرآة منها من يتحدث عن المرأة المرعبة التي تسحب ضحاياها إلى داخل المرآة ليبقوا فيها إلى الأبد.. وأخرى تتحدث عن رؤية الشخص لقرينه، وثالثة تتحدث أن المرآة بوابة تمتد إلى عالم آخر تمرق عبرها كائنات ماورائية مخيفة، وبعضهم يعتقد إن المرايا مسكونة بالأشباح وأرواح الموتى، وبعض يزعم إنها تؤدي إلى عشق وحب الجن للإنس، ومن يقول أنها تؤدي للمس والمرض..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد..

عدتُ لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام ووئام..

***

 

البعض يعتقد أن المرآة بإمكانها أن تجيب على بعض الأسئلة.. تكشف مثلا عن مكان الشخص الذي نبحث عنه، أو يكون مصيره مجهول..!!  قرأت في تعليق من شخص درس في الاتحاد السوفيتي أن مثل هذه العادة وجدها في منطقة ريفية في روسيا.. إذا غاب أحدهم ولم يعرف مصيره، يتم الصعود ليلا إلى سطح المنزل، وتضع المرآة أمام الشخص الذي يقوم بالكشف، وفي جانبيه شمعتين أو ضوء خافت.. وبعد أن يتم الكشف يجب أن يربت الشخص الذي في الجوار على هذا الشخص حتى يعود إلى وعيه أو يجن..

وفي تعليق آخر قرأت ليمني أنه حالما كان عمره 12 عاما كانت اخته تبحث عن مصير زوجها الجندي الذي انقطعت أخباره إبان حرب صيف 1994 .. تبحث عن أمل تتمسك به مهما كان واهنا أو واهيا.. طرقت باب أحد الشيوخ أو المشعوذين.. أحضر هذا الأخير مرآه وأعطاها أخوها الطفل والذي تحدث عن هذا بعد سنوات طويلة بقوله:

جعلني الشيخ اركز الى بؤبؤ العين، وطلب مني رؤية مكان زوج اختي.. مر وقت ولم ارَ شيئا في البداية.. كان الشيخ يقول لي ماذا ترى، وكنتُ ارى انعكاس الصورة التي خلفي، يعني اراه هو والضوء.. ثم ركزت أكثر ورأيته في مكان، ووصفت لهم المكان، وبعد خروج زوج اختي الذي كان اسيرا، قال انه كان في نفس المكان الذي وصفته، وللأمانة شفت ناس ولكن بالزي الروماني القديم.. يعني جنود عليهم الخوذة التي كان يرتديها الرومان..

هناك أقاويل أخرى سمعتها في مناسبات مختلفة تتماشى مع تلك المزاعم أو قريبة منها.. ومثالها: عندما تريد أن تبحث عن سارق قام بسرقتك.. يحضروا طفل صغير عمره بين 6 – 12 سنة ويجعلونه ينظر ويمعن في الماء الذي يكون في وعاء صغير، والذي على ما يبدو يقوم مقام المرآة..

ويظل كل هذا مجرد أقاويل ليس لها أساس من علم، طالما لم يتم بحثها، ولم يقل العلم كلمته فيها، وإن كان البعض يحاول أن يجد لها صلة ما بالحديث عن قدرات الوعي الخارقة والغير مكتشفة، أو بالتنويم المغناطيسي، أو نحو ذلك من الأقاويل التي تحتاج إلى سند وبحث ودليل..

***

 

في محاولة لتفسير أو فهم ما مررتُ به من لحظة صادمة أو تجربة مفزعة؛ قرأت أن “جيوفاني كابوتو” الباحث الايطالي في البصريات من جامعة “أوربينو” في إيطاليا، قام عام 2010 بدراسة، وأجراء تجربة شارك فيها خمسون متطوعا، طُلب منهم تركيز النظر على مرآة موضوعة داخل حجرة ذات اضاءة خافتة لمدة عشر دقائق، وكتب النَّتائج في ورقةٍ بعنوان “وجهٌ غريب في المِرآة”.

كشفت النتيجة أن نسبة كبيرة من المتطوعين شاهدوا حدوث تغيرات وتشوهات في وجوههم بالمرآة، وتلاهم من شاهدوا وجوه أشخاص غرباء أو أقارب متوفين، وتلاهم قلة شاهدوا حيوانات كالقطط والخنازير..

وتنصب أهم النتائج التي وصل إليها البحث أو خلصت إليها الدراسة، أن ما حدث كان بسبب فشل الدماغ في تحليل البيانات التي نقلتها العين؟! تقصير وظيفي في الدماغ بسبب تركيزه على جزئية من الصورة واهماله لبقية الصورة أدى لتلاشي اطراف الوجه أو انبعاجه وتلاشيه؟! خلل عقلي أعطا اشارات غير صحيحة للبصر..

***

 

هذا العلم ربما لازال في بدايته، ويحتاج لكثير من الأبحاث العلمية.. الاحتمالات والفرضيات كثيرة، ربما تتراوح بين الوهم، والهلوسات البصرية، وتظليل العقل، والاحتيال على الدماغ، أو الخطأ من قبل الدماغ في تحليل ما تنقله الحواس، والإيحاءات، ومخزون الخيال، والعوامل النفسية والوجدانية، والمؤثرات الخارجية، والاختلالات الدماغية والعصبية..

لازالت الأسرار التي يكتنزها الوعي وما يسمى اللاوعي كثيرة منها غير معروفة، أو لم يجزم فيها العلم بعد، بل ولازالت جل قدرات الوعي عصيّة على العلم إلى اليوم.. لازال العلم لم يكشف عن كثير من أسرار الدماغ، وسبر كثير من دهاليزه وأغواره وقدراته..

عدم القدرة على تفسير ما هو غامض يجب أن لا يدفعنا إلى الوقوع فريسة الخرافة، ومحاولات العلم في البحث والكشف أقرب للحقيقة من الاتكاء على العجز والخرافة..

 الذود بالغيب هو عجز معرفي قبل أي شيء آخر، وما يعجز العلم عنه اليوم حتما سيدركه غدا بعد عهد أو ردح من الزمن.. المستقبل عمره مديد لا ينتهي بألف أو ألفين عام.. العلم يبدد الخرافة وينتصر عليها على نحو مستمر.. المستقبل يكسب الرهان، والعلم ينتصر كل يوم.. وأن أخفق العلم مرة يعاود الكرة حتى ينتصر..

***

 

يتبع..

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى