طيران بلا اجنحة .. حرمان وتضييق وشدّة..! “تحديث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته. المنع يكشّر أنيابه ومخالبة في وجه طفولتي المتعبة. الواقع يتجهم في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه في أن ألعب وألهو وأفرح كغيري من الاطفال.
تبتلعُ الحسرةُ وجودي كلما أشعرني الوجود أن الحياة لا يزال فيها ما يسر، أو تخبرنا الحياة أنها تستحق أن نعيشها. يحوّطني كثير من الحزن، ويثقلني كثير من الألم.
كنتُ أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة طبيعية لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو إلا بالحد القليل المسوّر بالمحاذير، والوقت الذي يظلم صاحبه.. أنا مقموع بالأوامر وبسلطة تشبه القدر الذي لا ردَّ له.
إذا ما أغاث الله قرانا ونزل المطر وسالت الجدران، كان أقراني من قريتي ومن “المرِّيبة” و “القرِّيعة” و”الفَقرَة” يذهبون للسباحة فيما يسمى “القلت” في “معينة شرار” فيما أنا الممنوع أن أذهب إليه بأمر لا يقبل الجدل. لقد استطعتُ أن أرتاده مرتين بما يشبه المعجزة، ولأنني لم أتعلّم السباحة كدتُ أغرق، وأثناء الغرق شربتُ ماءً وطحالبا.
ضربوني على الصلاة كثيراً، ولم يعلِّموني السباحة.. مفارقة عشتها في طفولة مكرّسة بالمنع والحرمان.
أقراني يذهبون إلى حفلات الزفاف القريبة والبعيدة. يرقصون على الطبل والغناء والمزمار الشجي. الأطفال ينتشون ويستمتعون، فيما أنا بحسرة أسمع من بعيد دق الطبول، وغناء الغانيات، وكم تمنيت أن أكون حاضراً، وتمنيت أكثر أن أكون فناناً أو راقصاً أو نافخ مزمارا.
أمنيات حضوري حفلات الزفاف، مصلوبة بالمنع والمحاذير. أنا الممنوع من الذهاب إلى حفلات الزفاف إلاّ بقدر نادر وقليل في زواج قريب أحضره وأنا مثقلٌ بحيائي الكبير. لطالما شعرتُ بحرماني من اللهو والفرح وسعادة احتجتها، وبخلت الأيام أن تعطيني منها إلا أقل من القليل!!
حتى حضوري زفاف القريب لم يخلُ من تنغيص وتكدير. أذكرُ حضوري الزفاف الأول لابن عمّي عبده فريد عندما فضحني أحدهم، وكان قليل الحياء وسليط اللسان وكشف أمري أمام الحضور أنني لا أذهب إلى المدرسة، بل أذهب إلى أسفل “موجران” “أمورب”، ويقصد نشرب سجائر “مارب” و “يمن” الرخيصة والمهرّبة، ثم نعود وكأننا عُدنا من المدرسة، فيما نحن لا نصل إليها. كنّا نسمّي ما نفعله يومها أنا وزملائي بـ “الهفسنة”.. وعندما علم أبي بالأمر طالني ضرباً وعقاباً شديدا.
ربما كان ابي محقّاً إلى حدود ما، إلا أن الأحق في تقديري أو الحق كما أراه لو كان نصحني وعاقبني بلين، لربما أستحيتُ وخجلتُ منه، أو كان على الأقل يعاقبني دون شدّة، ويتابعني بحب، ويتعقّب خطاي وما أفعله ليساعدني على تجاوز ما أنا فيه.
ولكن ما يؤسفني اليوم أكثر أنني ما تمنيتُ أن يفعله أبي في الأمس البعيد، لم أفعله أنا اليوم مع بعض أولادي، أحاول اليوم أن ألتمس له ولي العذر، وقد صرتُ أباً لسبعة بنين وبنات، وغرقتُ في مشاغلي وفي نفسي، وفي الشأن العام الذي أخذ من وقتي كثيره وقليله.
***
أقراني مثل جارنا سعيد نعمان وأخوه أحمد، وأبناء العم بكيل وعبده وصالح، وأبن العمة حسن على راجح، وأبناء المرشدي، وصلاح صالح، وعيال يزيد، و”المرّيبة” وأبناء “الحَجر” وغيرهم، يلعبون ألعاب الكُرة من القدم إلى “البصيعية” وألعاباً أخرى مثل “الأمان والحبس”. و”الدويس” و”الغماية” وغيرها من الألعاب الرائجة في أيامنا تلك، فيما أنا يتم التضييق عليّ، حتّى أحسستُ أن مساحة حرّيتي في اللعب لا تزيد عن مساحة زنزانة صغيرة أحاول اختلاس النظر والتنفُّس من كوّة صغيرة فيها.
ومع ذلك كنتُ أستغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرُد منه كالغزال، وأنغمس في اللعب حتى شحمة الأذنين، ولكنه كان انغماساً لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلاّ قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما إن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا تقسيط فيه ولا تأخير، عقاباً على تمرّدي القليل عن طاعته وسلطته وولايته.
كنتُ استغلُّ أحياناً ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، فألهو وألعب دون أن أتعب أو أمِل، فيما كانت جدّتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها يشبه الغرغرينا، حبيسة بيتها رأس الجبل، وكانت من مفرجها المطل، ما أن ترى أبي في أول الوادي عائداً إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولاً إلى بيتنا، وأبدو في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والده في عدم الخروج واللعب في غيابه.
هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب، والتخفّي والتمرُّد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحمّلتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم لسلطة أبوية بدت لي طاغية.
كنتُ أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آباءهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بوافر المحبة.. لازلت أذكر على سبيل المثال فتوان كيف كان يتعامل مع أبنه عبدالباسط، وعبدالكريم هزاع وابنه محمد حالما كانا يقضيان إجازة العيد في القرية، فيما كنتُ أنا أمضغ جروحي، واحشو عقلي الباطن بالأسى والحسرة، وأختنق بعبراتي المحبوسة، وأُذبحُ بغصص كالسكاكين.
كنتُ أسأل ربي بمرارة واختناق: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقني هذا الرب في مكان أخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمّي معي، فلا قدرة لي على فراقها.
كنتُ أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير وعلو شأن أيضاً، وكأنهم كبار في عمر آبائهم و ولات أمورهم!
ورغم تمرّدي لم أفكّر يوماً أن أسجّل بطولة عليه فيما أكتبه، بل أحاول ألتمس له العذر أو بعض عذر. فيه ما يخصّهُ من ظروف ونمط تفكير وطبع ومزاج، وفيه ما يخص الواقع المر الذي نعيشه، والاستلاب الفاحش، والتنشئة المشوَّهة، والوعي المضطرب أو المعطوب. وبين الخاص والعام وجدت نفسي ضحية عالقاً في واقع أكثر وزراً، يعيش القسوة والعنف والاستلاب.
***
كان أبي يعيش زحمة مشاغل وتوتُّر، ، ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي. كانت المشقّات والمسؤوليات كثاراً. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية إخواني الصغار تحتاج أيضاً لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم والحصاد إذا جاء، وكذا لا أنسي أنه صار لنا بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، صارت تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين.
كانا في مرحلة من حياتهما يغرقان في العمل كثيراً، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلاً وبعدها أحياناً.. كنت أعلم أنهما مثقلان بالكثير من المهام وتفاصيل وضغوط الحياة اليومية تلك، وكنتُ أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية كونني كبير الأشقّاء، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليلاً، أو غير متاح، وفي أحايين كثيرة أجد “فرماناً عثمانياً” من بابه العالي فعالاً يقول “ممنوع اللعب” فيكون منّي الالتزام، ويكون منّي التمرد أيضاً، مهما كانت كلفته.
***