مذكرات

طيران بلا أجنحة .. محاولة انتحار..! “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

حاولتُ التحدِّي والذهاب عنوةً “مولد الخضر”، ولكن أبي كتّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروساً في قاع دكانه.. ضربني بقسوة، أحسستُ منها وفي ذروتها أن صاحبها قد نُزعت منه كل شفقة ورحمة.. استمريتُ مربوطاً على العمود الخشبي حتّى جاء الرواح، وفات موعد الذهاب إلى “المولد”، وفات معه عام من عمري المثقل بالانتظار.

كنتُ استعجل وقت عقابي، وأتمنّى أن لا يطول؛ لعل وعسى أن أُدركُ بصيص من أملٍ ألحق فيه ساعة من “المولد” قبل الرواح، بمجرد اطلاق سراحي، غير أن أبي فطنَ ما يجوس داخلي، وما أستقر عليه عزمي؛ فتعمدَ إطالة عقابي الثقيل، حتّى يدركني اليأس الأكيد من أن ألحق بقايا ذلك “المولد” الذي لن يعود إلا بعد عام طويل.. فُلَّ عزمي وأفل أملي، وتلاشى ما صبرتُ عليه، وقطع اليأس كل محاولة.. لا ذهاب لي ولا رواح، ولا جدوى من أي مسعى أو محاولة.

كان الزبائن من مختلف الأعمار يأتون لشراء حاجاتهم من دكان أبي، ويمعنون النظر نحوي، وأنا مكبّل بحبل وثيق ومشدود.. مصلوب قعيد إلى عمود من خشب.. كان بعضهم يرمقني بحسرة وتعاطف جم، فيما حاول البعض تودد وتوسل أبي دون جدوى، ودون قدرة أن ينقذوني مما أنا فيه.. هنا “الابن ملك أبيه” كالعبد في عهد الرق مِلكا لسيّده.

وبعد فوات موعد الذهاب إلى “المولد”، وتلاشي الأمل أن أدرك قليلاً منه، تركني أبي مربوطاً على حالي، وذهب إلى “رأس شرار” ليجزّ الزرع في موسم الحصاد، فيما أمّي بعد انتظار، وغصص، وسيل من الدموع، هرولت إليّ وفكّت وثاقي، وحضنتني كابن مفقود عاد إليها بعد غيابٍ وانقطاع.. غَشَتني بعطفها وواستني بكلمات من وجع وتصبير.. امطرتني بنظرات حسرتها وقلة حيلتها مع أبي، ثم ذهبت بعد عطف ورفق وحنان، لتجلب الماء من البئر، فيما كنتُ أحاول أداري نوبة سخط وانفعال واستنفار للانتقام من أبي، حتّى وإن كان بانتحاري.. أردتُ أن ألحِق به أكبر قدر من الغيظ والندم على ما فعله معي.

***

بعد أن خرج الجميع من الدار، أغلقتُ بابه من الداخل، وصعدتُ إلى حجرة أبي أعلى الدار، ووجدتُ هناك سلاح والدي قد صار في متناول يدي .. كنتُ أتخيل لحظة إطلاق الرصاصة على رأسي من أسفل ذقني.. أسمع صوتها يدوّي في رأسي كـ “الصرنج”.. أشعر وكأنني أسمعها حقيقة مدوية وصارخة.. ثم أتخيّل جُثتي، وقد خريتُ صريعاً في قاعة الغرفة، وما تلاها من همود وخمود، ونزيف يسيح في القاع، ورأسي المثقوب برصاصة لأقتل فيها أبي ثأراً وانتقاماً من ممانعته وقسوته وغلاظته.

لم أكن أعلم أن بعض من رأسي سيتطاير على الأرض والجدار نثاراً وقطعاً صغيرة.. لم أكن أعلم إنني لن أسمع صوت الرصاصة التي سأطلقها على رأسي.. نعم.. لم أكن أعلم أن الرصاصة التي سوف تقتلني لن أسمع صوتها.. لم أكن أدري أن سرعة الرصاصة اسرع من سرعة الصوت، وأنني سأموت قبل أن أسمع صوتها.

كنتُ أعلم أن رصاصة واحدة في الرأس تكفي لأن تقتلني على نحو أكيد، بل وقادرة على أن تقتلني مرتين إن كان لنا أن نعيش الحياة مرتين.. كنتُ اتخيّل أن مفارقتي للحياة ستكون بعد لحظة من إطلاق الرصاصة، ولكن ليس قبل أن أسمع صوتها.. كنتُ أحاول أن أعيش اللحظة كما ارتسمت في وجداني ومخيال طفولتي.

أخذتُ بندقيته الآلية، وعمّرتُها وتمددتُ، ووضعتُ فوهة ماسورتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أطلق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعتُ خوار بقرة أمّي، وكأنها رسالة الكون لي لإرجاعي عمّا عزمتُ عليه!! أحسستُ أن بقرتنا تريد منّي نظرة وداع أخيرة أحتاجها أنا أيضاً، وربما تريدني هي أن أكف وأرجع عمّا أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى منّي، ولكنها تبحث عن عذر مُقنع أمام نفسي..!

ذهبتُ لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتُها شعرتُ أنها تترجّى وتتوسّل بألا أفعل..!! هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق والمضطرب. أحسستُ أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعداً أو فراق الأبد.. قبّلت ناصيتها، ومسحتُ ظهرها، وراحت كفّاي تداعبان عُنقها حتّى ضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها ربما ترتقي إلى تصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلّه أو معبود مقدس.

لا وحي نزل، ولا جبريل أعترض، ولا معجزة نهضت وقالت “لا تفعل بنفسك ما تنتوي فعله”.. كنتُ أشعر أنني بأمس حاجة إلى معجزة تقول لي ما لا أجروا أنا على قوله، بل وتأمرني بالكف عن قتل نفسي.. فقط بقرتنا وحدها التي مالت إليّ وأحسستُ بحبّها الجارف، وبادلتها محبّة غامرة.. شعرتُ أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.

غالبتُ دموعي، ولكنّها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتَمُّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار إن عجزت عن إقناعي في العدول عن قرار أخذته بحق نفسي وبحق الحياة.. أحسستُ أنها تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلّق على رقبتها كمصد يصدُّ العين والحسد. وأنا المحروس أيضاً بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!

قطعتُ اللحظة، وذهبتُ لأسرق لها الطحين، وأصبُّ عليه الماء، وأقدّمه لها كحساء وداع أخير.. امطرتُها بقبل غزيرة، بدت لي أنها قُبلات الوداع الأخير.. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي.. أحسستُ أنها تتوسّل وتترجّي أن ألا أفعل وأن ألا أرحل عنها، وعن الحياة التي يجب أن أعيشها.

كنتُ أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحسُّ بها كثيفة وممطرة، أو بما ينسجمُ معها من أحاسيس ومشاعر جارفة.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب.

***

تطلّعتُ صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الوداع الأبدي يجعلك ترى كثيراً من تفاصيل الأشياء قبل الرحيل، ربما لا تراها في أحوال ما هو عادي ومعتاد.. وجدتُ نفسي أودع كل شيء بما فيها التفاصيل التي لا تخطر على بال، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل.. كنتُ أتفرّس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرّة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمّي وأخواتي.

تذكرتُ أمّي وحب أمّي.. أمّي التي ضَحَّت بأشياء كثيرة من أجلي.. أمّي التي تشربت ألف عذاب، وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت أمّي صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء.. كنتُ أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها.

ربما في لحظة لم أكن أتخيّل أن ثمة شيئاً يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتّى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمّي هو من غلبني أكثر، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمّي.. تذكرتها وهي تكرر لي فيما مضى قولها: “إن حدث لك مكروه سأموت كمداً وقهراً”.

لا أستطيع أن أتخيّل أمّي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمائي.. كنتُ أتصور أن مشهداً كهذا سيكون صادماً وفاجعاً للإنسان الذي أهتم به؛ مشهداً لا استطيع تخيُّل مأساته الثقيلة على أمّي التي تحمّلت الكثير من أجلي.. مشهداً لن يحس بمدى فاجعته غير أمّي التي لا شك سيكمدها الحدث إن لم تخر صريعة من وهلته الأولى.

مقارنة مع الفارق.. كثيف ومقارب في الإيثار والحضور ذلك التصوير الذي قرأته بعد قرابة الخمسين عاماً في آخر منشور للدكتور عبد الرحمن جميل فارع وهو على فراش الموت: “لأجل الأحبة أقدّس الحياة واتمسك بها يا الله” .. نعم إنهم “الأحبة” العنوان الذي كان حاضراً بوجه ما حال بين عدولي عن قرار الانتحار، وانتقالي إلى قرار آخر.

بسبب أمّي وحبها وأخواتي الصغيرات أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أرفق وأخف ضرراً وكلفة، وهو ما سأقدم عليه الأن لأغيظ به أبي بدلاً من الانتحار.. هكذا جاس الكلام لحظتها في وجداني المشتعل، وكان العدول إلى قرار هو أخف ضرراً وأقل مقامرة .

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى