مذكرات

رسالة ثالثة لأبي .. من كل بد سيقطع الحبل الحجر

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

الإهداء إلى رفيقي عبدالوهاب قطران في زنزانته، والنقابي الشجاع أبو زيد الكميم ورفاقه في المعتقل.

في عهدهم اكلح وجه النظارة بالكآبة.. تبعّجت أيامنا قهراً وحسرة.. الروح تنزف، والحياة تنحسر، والجوع يكتسح البيوت.. قطعوا سبل الحياة والعيش الكريم.. حل الخراب في كل بيت.

النهب بات جارفاً والفساد بلغ مداه.. سلطة قمعية تقطع أنفاسنا.. تسد أفواهنا.. بأغلالها ترسف أقدامنا.. شعبنا مكروباً بها.. بحروبها.. حروبها لا تنتهي، ولا تعيش دونها.. تنشر الرعب المزلزل في قلوب أطفالنا، والامهات، والأبرياء الباحثين عن أمان، والمواطن الباحث عن كرامة.. عن لقمة عيش كريمة.

ازدهرت احوالهم على حساب شعب يموت.. صوتي تلاشى، وغصتي تقطر دماً وهي تسأل: من أين لكم كل هذا الانبعاج مالاً وثروة..!! احوالكم في أمسنا ترزح تحت أثقال الديون..! أمسكم خالي الوفاض، عاري اليدين..!! من أين لكم كل هذا الذي يعمي العيون..؟! عيوننا مسمولة بما ترى، وقلوبنا تدمي وتنزف كل يوم.

نريد دولة للجميع.. عيش كريم دون ذل أو هوان.. عدالة ومواطنة.. لم نجد في عهدكم غير خراب ينتشر.. فساد مهول.. نهب يزيد.. تمييز مريع.. ضقنا وضاقت أحوالنا.. هرس الضيق عظامنا.

المناصب حكراً لكم.. حقوقنا مخطوفة إرث وقسمة بينكم.. كل حق مختطف.. الأمر لكم والغنيمة شعبنا.. إلى متى؟! الكذب بات باذخاً لا ينطلي على غباء أو حجر.

كل شيء بات مكشوفاً لنا.. كلٌ يوظف أسرته.. أنسابه وعياله وأخوته.. عشيرته وأبناء قريته.. أتباعه المخلصين.. على حساب حقوقنا.. حقوق شعبنا.. شعبنا بات منكوب بهم، وبمثلهم.. مليون موظف تقطعت بهم السبل.. لا نرى حيالهم غير تنكيل حقود.. إذلال أشد.. لماذا كل هذا الانتقام، والحقد الدفين؟!!

يريدون شعباً من عبيد.. يستجيب دون اعتراض.. دون جدل أو نقاش.. حياته سمعا وطاعة.. جباية لا تنتهي.. محاطب إلى الأزل.. تسليمه دون شك.. السؤال جريرة، وبوحنا كفر بواح، ينتهي لمحبس أو مهلكة..!!

تورّموا وتبعّجوا.. شعبنا بات غنيمة.. ضربت الغلبة عليه طوقها.. أطبقت مخالب جوعها.. شدّت علينا خناقها.. الجوع لنا، ولهم ترفاً وتخمة.. شعبنا منكوباً بهم.. نهب جسور وفساد مهول عرمرم.

أرزاقنا حقيرة تحتاج منا ألف حيلة للوصول.. يضيق علينا ضيقها.. يشتد يباسها.. يستخسروا أن يمنحونا عُشرها.. عيونهم تستكثر قليلها.. أما جشعهم جهنم، تسأل كل يوم هل من مزيد.. باتوا على أرزاقنا وحقوقنا مقابض.. مغالق من حديد.. ظلم شديد يا أبي، وبخل علينا أشد.

يريدون أن نكون عبيداً حتى نموت.. حميراً يمتطوها في كل حين.. هذا كثير يا أبي.. فوق حد الإحتمال.. معلم يشقى حتى يموت بأقل من قوت يومه.. يريدون معلم لا يئن.. لا صوت له.. يموت دون قوت أو كراه.

***

قال واحد منّا: سملوا العيون بالخناجر والطعان.. كيف نرى دون عيون أو نظر؟! ما عاد للأعمى عصا.. كيف نبحث في العمى عن طريق أستوحش سالكه؟! كيف يحمل الأعمى عصاه، وقد بات مفقود اليدين؟!. كيف للعشق المنتحر، والكلف المترع بالشغف، والحب المعتق بالسنين أن يموج بالتناسل بعد خصيان الرجولة؟!

كيف نقطع الصحراء وقد ترامت في أطراف المدى، والسماء فوقها سوداء حزينة..؟! لا سَمر فيها ولا قمر ولا فُسحة أمل.. “لا ماء ولا خضرة ولا وجه حسن”.. كل شيء بات في حكم العدم.. كل شيء يا أبي بات أكوام من خرابٍ يزدحم.

بعد حريق روما كانت هنا يوماً مدينة.. يا ويل المدنية المستباحة من أجلاف غلاظ.. الفن مكروه، والعشق جريمة.. الحشيش مكفّر عنه بدورة، والضحالة تشفع وتغفر.

نحن من بلاد عشقها بات جريرة.. العشق فيها جريمة لا يسقطها تقادم..! السُكر جريمة أكبر من قتل المدينة.. ما أجرأهم على تلفيق التهم..!! من لا يجد الماء ليشرب، كيف يجد دم المسيح ليسكر بالنبيذ المعتق؟! شلة (الملابيق) لا تسكر بدم.

***

قال آخر منّا: أمتطانا الليل المسربل بالأنين.. مآذن الحب حطاماً تحت أكوام الخراب.. المنابر تعج إفكاً بآلاف الخطب، أمّا الحديث عن الحقوق لديهم محض إرجاف خبيث.. عمالة وعدوان وصهينة وألف تهمة جاهزة.. أوغل الباطل بكيل التهم تلفيقاً وجرأة.

صرنا في عهد أوغاد وحمقاء، مزقاً بين أنياب ومخلب.. بين شقي الرحى نُطحن حرباً وجوعاً، وفي مغالق الموت مُتنا، وما زال الموت فينا يعيث ويزدهر.

فساد مهول ربربته الحرب اللعينة، حتى غدا طغياناً يجتاح القلاع الحصينة.. صادروا حق عشاق الحياة في أن يعيشوا.. أجهزوا على كل حق.. حقّنا في الحياة والاختيار معدوم، أو مسلوب مصادر..

يريدون أن نكون عبيداً، أو أكثر من عبيد إن تسنّى، بقوت لا يسدُّ الرمق.. يريدون أن نكون مطايا أو لا نكون.. يريدون سلب ما بقي لدينا من حقوق.. حق الحياة وقبله حق الوجود.. كيف لجماعة أن تزعم أنها الشعب كله، وأن واليها إله؟!

وقال ثالث: وقعنا وقعت الشاطر بعشر، أو منحنا ثقتنا لمن لا يستحق.. ربما طيبتنا عمتنا، وحسن الظن أبتلانا.. ربما خدعة أو كذبة أنطلت يوماً علينا.. ربما “التقية” التي أخفوها علينا بألف حيلة، كانت لنا شركاً ومصيد..؟! تمكينهم كشف ما في الدواخل مختبئ.. التمكين فضح لنا القبح كله.. بئس المصير ينتظرهم مهما تأخّر.. مزابل التاريخ لهم أسواء مآل.. إن مكروا بنا يوماً، فالتاريخ أدهى وأمكر .

***

قلتُ: من أين أتى كل هذا القبح وأين كان مُختبئ؟! كيف أختبأ عنّا كل هذا الحقد المزلزل؟!! هذا الكم المهول من تدليسٍ وغش.. قل لهم يا أبي “من غشنا ليس منّا”.. ليسوا منّا حقا يا أبي.. ليس منّا كل هذا الحقد المريع الذي يفترسنا كل يوم.

رصاصة الغدر باتت من القلب تدنو يا أبي.. تدّعي أنها حد الموت مهووسة بنا.. بالكذب باتت مهووسة ومغرمة.. حبال المشانق متدلية من أعوادها تناوش أعناقنا، وتدّعي إنها الحب كله.

نحن أقوى من الرصاص، والحب المزور على مجرب لم يعد ينطلي.. أعناقنا مشرئبه أعلى من أعواد المشانق.. حقنا في الوجود بتار أكثر من مقصلة.. شموخنا أشمخ من شماريخ الجبال التي لا يبلغها نظر.. إن قُتلنا أو شُنقنا أو مُتنا في ظروف غامضة؛ فالخزي والعار لهم، ولنا الخلود، والمجد كله.

إن مُتنا فقد ذرينا في طينها ما يستحق الأمل.. حصاد يموج فرحة.. نضالنا جالد ألف جلاد وباطل.. صمودنا أسطورياً في وجه الشدائد والمحن.. حياتنا عشناها شجاعة وشهامة وهامة.. من تحت أكوام الرماد من كل بد سيولد ألف عنقاء وفينق.

الحياة ربما تنحسر، لكنها لا تموت.. حياتنا مهما خابت ظلّت مفعمة بالتحدّي والأمل.. لا بد لها يوماً تلد.. حتماً سينتصر دمنا على ألف سيف وسيف، وسيغلب القلبُ الرصاص.. ستنتصر روح الضحيّة على ألف جلاد وجلاد.. من كل بد سيقطع الحبل الحجر.. سيقول التاريخ فيهم كلمته.. نحن من عشقنا ذراه والقمم العالية، وهم العاشقين مزابله وقيعانه السحيقة..

***

#الحرية_للقاضي_عبدالوهاب_قطران
#الحرية_للشيخ_ابوزيد_الكميم_ورفاقه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى