مذكرات

طيران بلا أجنحة .. خذلان “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

الآباء يحنّون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف والمحبّة، ويحيطونهم بالرعاية والاهتمام، وفي الغالب والأعم لا يردون لهم رجاء أو طلباً إن تأتّى وأمكن، أو كان تحقيق هذا الطلب في الوسع والمقدرة، فإن أستحال وتعذّر التمسوا منهم السماح والعذر المؤكد.

هذا الانطباع كان نتاج مشاهداتي غير القليلة في أحوال الناس، وتحديداً في علاقة الآباء بأبنائهم، ومدى الفُسح المتروكة لأبنائهم، وما هو متاح من خيارات أمامهم، فيما المتاح لي حال وجوده، ضيّق جداً غير قابل للاتساع أو التمدد، وهو حرمان عشته سنوات من طفولتي، وما علق في ذهني من خيبات أستمرت حالما كنت طفلا.

انطباعاتنا حيال بعض الوقائع أو أكثرها عرضة لأن تتبدّل وتتغيّر، تبعاً للعديد من العوامل؛ منها العمر، ومستوى الوعي، ومدى النضج الذي يكون عليه الإنسان.. ربما شيء مما أذهب إليه من انطباع وتصور يكون حقيقي ومطابق للواقع، وربما في بعض منه مبالغ فيه.

أحس ببعض الاضطراب.. أشعر ببعض التناقض يحتدم في أعماقي.. ربما يداهمني هنا إحساس بضرورة الدفاع عن الغائب، وأنا أتحدث عن قسوة أبي، فأحاول أن ألتمس له العذر، أو من باب أحوط أهوِّن من انطباعي عن واقع عشته، أو أحاول أن أجد مقاربة لعدالة أفترضها، أو ألتمس له العذر فيها، وأنا اكتب عنه هنا، في ظل غيابه، بل ورحيله الأبدي.

أبي كان شديداً معي، صعب الطباع، حتى أخال قلبه من حجر الصوان.. صورة علقت في الذاكرة ربما ظلمته فيها إلى حد بعيد، ولمّا كبرت وصرتُ أباً، نضجت وأزحت الغلو والمبالغة من هذه الصورة الداكنة، بعد أن فهمت أشياء كثيرة، وافترضتُ ما هو أكيد أن لا يمكن لأب أن يكره ولده، أو أحاول أن ألتمس له العذر في كثير منها، حتى وإن كتبتُ بعض مما حدث بمداد من وجع الأمس ومرارته وثقل وطأته، على طفل مرهف مازال يعيش داخله.

كان يحزُّ في نفسي أن الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد البعيدة، وأفراح الأعراس، ومجالس العزاء والأسواق والرحلات البعيدة. أبي لا يمانع فقط، بل ومستعد أن يرتكب حماقة إن فعلتها عنوة، أو حاولتُ فرضها بعيداً عن رغبته وإرادته، أو تجاوزتُ قراره في المنع.

ربما ما يفعله أبي نحوي يكون بدافع الخوف عليّ، أو هي عادته أو فلسفته عن أهمية الخشونة في التربية، وربما أنا من كنتُ أغضبه وأستفزهُ دون أن أقصد أو أعلم .. أبي يستثيره التحدّي، ويجن إن اعتراه إحساس أن ما أفعله فيه بوادر عصيان أو تمرد، بل ربما يكفيه أن يظن، ولا حاجة إلى تقصٍّ وإثبات في بعض الوقائع الذي داهمني فيها القدر.

***

“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرتُ “مولده”، أو قمتُ بزيارة مزاره.. كنتُ اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير معه صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكباً آخر، أو زاروا سطح القمر!! عجب أسمعه فتتملكني حسرة لأنني لم أشاهد ما شاهدوه، وغبت رغماً عن إرادتي عمّا هو مثيراً وجاذباً ويستحق العجب.

عندما يسردون الحكايات يتنافسون في ذكر التفاصيل ويزيدون عليها.. أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني، والمرارة تذبحني، لأنني ممنوع ومقموع، وزيارته أمل بظهر الغيب المُخيّب للأمل.

في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ في مثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر في المكان إلا بعد عام.. إذا فاتك أحدها أحسست أن عاماً من عمرك فات هدرا.. ضاع منك مرام لطالما انتظرته وتعلقت بمجيئه، وعليك ترحيله حولاً كاملاً لتجرِّب حظك مرّة أخرى فيما يليه، فإن خاب مرة أخرى تشعر أن عمرك يضيع، والأمل ينحسر، والخيبةُ تدركك، وحزن مضاعف يثقل كاهلك.

البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتضفي على المناسبة تميزاً وهيبة. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وساحرة.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحياناً تفوق الخيال.. لن تكون مضطراً إلى بحثها، بل يجب أن تبدي العجب حيالها، وتصدّقها كيفما كانت، وربما تزيد عليها وتصير خيالاً فوق خيال، فيه كثير من السحر ومتعة آسرة.

“المجاذيب” ترى منهم ما يدهش ويذهل.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقاً لأن تراها ألف مرة دون أن تتوجس أو تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.. تستمتع وكأنك تزور عالم آخر يعج بالعجب، ويعلق في وعيك وشم دهشة لا تزول.

***

من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعوت الله أسبوعاً وأكثر أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلاً من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلاً من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلافاً وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقاً ليناً حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام، وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى آخر.

ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول السماء وعرضها، وظل قلب أبي صعباً وقاسياً، لم يرق ولم يلن.. أمّي أيضاً تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي.. أبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، ربما يحتاج تغييرها قضاء وقدر، أو بالأحرى هذا ما كنت أتخيّله، إن لم أكن قد عشتُ بعض منه بالفعل.

أبي لا يفيد معه دعاء ولا رجاء ولا سحر ولا “قانون جذب” أو هذه الصورة الداكنة التي تشكلت خلال سنين في وعي طفولتي، وهي صورة طالها بعض المبالغة في رسم الواقع بانطباعات كانت في بعضها غير مطابقة له، أو فيها نيل من الحقيقة أو ما جانب الصواب فيها.

***

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر؛ فإن ما تفعله السلطة اليوم، يحملني على الترحم لأبي ليل ونهار، وأحمد الرب أنه لم يرَ عهداً كهذا، وهو عهد تمر جنازيره الثقيلة على روحي المتعبة.. عهد عاد بنا هرولة إلى القرن الهجري الأول، ومعه برك الدم والدموع والغنيمة، حتى بتنا في ردهته غنميه حرب وغلبة، وقد قلب المجن، وأدار للمستقبل ظهره وقفاه.

أحبُّ أبي لأنني بضعة منه.. تعلمتُ من تربيته أن أوغل في العناد قدر ما أستطيع، ولكنّي وبالضرورة أوجههُ فيما هو خير وشريف وعالي المقام، وفيه عشق وشغف لمستقبل أبحثُ عنه، وأن لا أستسلم ولا أستكين لظلم، ولا بأس إن انحنيت يوماً مضطراً لعاصفة!!

وختاماً أشير هنا إلى أن إحدى مدارس التحليل النفسي تُعزي اشكال التمرد ضد السلطة بانها تمر ضد سلطة الاب، وتفجير لرغبة دفينة في النيل من الاب باعتباره رمزاً للقمع والكبت والمنع والحرمان وكل اشكال الـ ( لا ).

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى