طيران بلا اجنحة .. قسوة وطفولة بطعم التمرد (2- 2) “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
(2)
من “سفينة النجاة” إلى “تيتانك”
كنتُ استفسر أمّي عن الجنّة، وأكثر عليها الأسئلة، فيما كانت هي تحكي لي وتجيب على أسئلتي، وتسترسل في إجابتها، وتشرح لي بسعادة غامرة، وبكثير من التفاصيل. كانت تحدثني ببهجة وغبطة، وتطلق العنان في وصفها، وكأنها تعيشها لا ترويها فقط.
كانت تروي مشاهدها وكأنها واقفة على رابية مطلة عليها، ثم تستغرق في وصفها بما يأسر الروح، وتطلق خيالها المجنّح، بما يسحر المسامع، ويُشغِفُ القلوب، وعند سؤالي لها عن كيفية بلغوها عرفت أن الصلاة على رأس شروطها، ولكني لم أصل، ولا أعرف ماذا يقولون فيها..!!
حصلتُ على وعد من أبي، أن يشتري لي ما تسمى ب “سفينة النجاة” حالما يذهب إلى عدن. وهي كتيِّب صغير يعلّم الصغار الصلاة بالكتابة والصور.
أريد “سفينة النجاة” التي تعلمنا الصلاة.. أريد أن أتعلم الصلاة، لأظفر بجنة الله في الحياة الثانية؛ لأتنعم بما فيها من نعيم باذخ ورغد هنيء.. “سفينة النجاة” سفينة وربان إلى الله، وما يسعده ويرضاه.
أريد أن أصلّي لأدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد. لا حزن هناك ولا موت ولا كمد. لا فاقة ولا جوع فيها ولا عوز. في الجنة تفاح وأعناب وفاكهة، وأنهار من عسل وسمن ولبن.
كنت أتخيل الحال وأنشدُّ إليه بوجدان غامر، وجوارح تفيض شوقا ولهفة.. الحياة الثانية لمن يدخل الجنة، حياة بهيجة لا تذوي ولا تنطفي.. سرمدية لا تنتهي!! يا لها من حياة كل ما ترغب أو تشتهي ستجده في الحال بين يديك وطوع بنانك..!! رغد وسعادة وخلود لا يفنى ولا يزول.
في الجنة كل ما يشتهيه نزيلها حاضراً وموجودا.. كل ما يتمناه يأتي تواً على الفور، قبل أن يرتَدَّ إليه طرفه. أنا أريد الجنة عوضاً عن هذه الحياة التي لا أجد فيها حزمة الكراث إلا في يوم وسوق الخميس.. اريد دار أخرى بحياة ثانية، ليس فيها حرماناً أو طلباً يرد. حياة لا تعرف ضيق عيش أو نكد أو كمد!!
في هذا الإطار الزاهي والخيال المحلّق عالياً لطالما حدثت نفسي بشأنها، ولكن ببساطة وتلقائية دون بلاغة أو تقعير في الكلام كما أفعل اليوم.
***
أريد “سفينة النجاة” التي تنجيني من النار، وتجلب لي كل مريح، “سفينة النجاة” ستعلمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته، وتشوقت له كثيراً، ومر أكثر من وعد دون أن يتم الوفاء به. كان النسيان يؤخر إنفاذ ذلك الوعد. وبعد انتظار وصبر أوفى والدي بوعده، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله.
عندما ناولني أبي كُتيّب “سفينة النجاة” كانت دهشتي أكبر من عالمي.. سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلٍ. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب. قلبي عامر بالفرحِ. يرقص ويغنّي ويطير كفراشة. وأنا أعيش الدهشة كلّها وبكل المعاني، وأردد محفوظاتي:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”
ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وانكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم.
“علّموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وبهذا العمر المديد، ربما لم أحسن ما ضُربتُ لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيداً أنني صرتُ أتعاطف كثيراً مع الحمير.
***
خضتُ معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن وأكرر بعض الأخطأ بل وأزيدها.. تدخلت يد أبي وحذاؤه، فطيّر عقلي وطار صوابه..
وجدتُ نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها ضباع وسباع. تهدّج صوتي، واضطرب تفكيري كبحر وعاصفة. تشتت روحي كنثار رمل في إعصار مدمدم.. تطيّر عقلي كشرر نار حديد تحت مطرقة حداد.
ضرب أضطربُ معه ويضطربُ معي التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون موسم، وتساقطت بعض الكلمات من فمي، فألملم بعضها، وتسقط أخرى أكثر منها. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط.
يجتاحني إعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، ويتداخل كل شيء ببعضه، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أحفظ ولا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرتُ أعجمَ يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا أعرف ولا يعرف من يسمعني ماذا أقول!!
ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس لا يقوى على المقاومة، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتضر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة كانت من جحيم.. إنهيار انهارت فيه روحي المهشّمة وأجنحتي المتكسرة حتى صرت ركاماً من حطام.
أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت أُلتّها وأفتّها إلى يوم القيامة. اعتقدتُ أن صلاتي لن يقبلها ربي منّي طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي المتكاثرة حال قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في “كريتر” عدن.. وكان حب أبي لي وحرصه في هذا المقام كالحب الذي قتل من يحب.
***
أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، كانت يد أبي تعلق أخي من خشمه بسبب الصلاة، وقد تعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبيه، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن فجراً.
ترك أخي عدن، وولّى هارباً من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: “سجل 16 سنة”.. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عاماً.
غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى يائها!!
***
قصّتي مع “سفينة النجاة” يشابه ما حدث لسفينة “تيتانيك”.. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و”الرب خير حامٍ وحارس”..
“سفينة النجاة”، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدتُ خيبتي التي تبتلع المحيط. وسفينة “تيتانيك” التي ساد الاعتقاد يومها أنها ضد الغرق، غرقت عميقاً في قاع المحيط.
“تيتانيك” بعد أربعة أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق، فيما أنا صفعة من كف أبي أو حذائه، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم.
***
العجيب أن خالتي “سعيدة” أم أخي علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها “الفاتحة” أثناء الصلاة، اتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهّد.
خالتي “سعيدة” كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلّون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير.
***