مذكرات

طيران بلا اجنحة .. قسوة وطفولة بطعم التمرد (1-2)”محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

(1)

قسوة وطفولة معذبة

في مرحلة من طفولتي قمتُ بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنستُ الدار، ونظّفتُ كل ملاحقه ومرافقه.. كدّيت في الأرض، ورعيتُ الغنم، وحملتُ على رأسي روث البقر، وساعدتُ أمّي فيما لا تقوى عليه، خصوصاً عند الحِمل والولادة. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب “الشقاوة”، انقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين.

في الصفين الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم قرابة عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة، وعشرة مثلها عند الإياب. كما عشتُ لاحقاً وأنا أدرسُ في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية.

***

عشت مرحلة من طفولتي مع قسوة أبي التي تجاوزت ما كان مألوفاً ومعتاداً عند عموم الناس.. تمردتُ على أبي، وسلطته التي بدت لي يومها أنها قد أفرطتَ وأستبدت.. قاومتُ أكثر من ظلم أثقل كاهلي، وكنتُ أشعر أن الظلم يفترسني ويهرس عظمي كل يوم.

كانت سياسة أبي في التربية تستند في وجهها الأهم إلى الشدّة والقسوة.. كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي أجله” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية، إن الضرب يشحط الرجال، ويجعلهم أفذاذا.. كان أبي مقتنعاً بهذا، وبأن هذه التربية سبق تجريبها مع أخي علي، وقد أتت أُكلها بما رام وأرتجى؛ فاعتز به، وصار زاهياً باسمه، وممتلئاً بحضوره، ومتفاخرا بأبوته.

***

في مرحلة لاحقة من طفولتي كنتُ أساعدُ أمي وأبي في عمل دؤوب يطول ويزدحم، يبدأ من الفجر، ويستمر إلى بعد دخول الليل، وخلاله كان يتكرر ضربي من أبي في رحلة مُنهكة، لا تخلو يوماً من مشقة وعذاب وإكراه.

بات الطبيعي والمعتاد كل يوم، هو ضربي المكرر من أبي، فيما كان الغير الطبيعي أن يضربني أبي في يومٍ واحد أقل من مرتين.. أمّا اذا نجوت يوماً من الضرب فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف، بل هو يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه. يوم كهذا كان يستحق منّي الاحتفال.

بالغ ما كان يؤلمني أن هذا الضرب يحدث غالباً أمام مشهد من الناس، وبعضه يتم بالحذاء. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي، وما جرى من أبي. كنتُ بعضاً من حديثهم الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله وأتخيله.. لطالما شعرتُ أن الإهانات تسحق عظامي، وأبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصّاب.

ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين، والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفاني، وفي بعضها لو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أستشعر به عند التحدي أو ما أخاله وأظنه.

عشتُ الواقع بكل مراراته وقسوته. كنتُ أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا نظير لها. رفضتُ أن أعتاد الأمر دون نهاية، أو أتصالح معه بطاعة وخضوع، وكنت أعبّر عن رفضي هذا بحالات تمرد كثيرة، بعضها ربما كان عابراً للموت أو لمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك أو مقارباً له.

ربما رأيتُ الموت أكثر من مرة، وغلبتني أقداري كثيراً، وخانني الحظ أو نال منّي، وأعلنتُ في نفسي ضجيج السؤال، وبلغتُ بالرفض والاحتجاج مبلغه، على أقدارٍ لم أكن أنا من أخترتها، وأحسستها في وجداني كثيفة ومؤلمة، في لحظات كانت ثقيلة، وشديدة الوطأة على كاهلي، بلغ التفكير فيها حد اقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعبأ بجهنم، وبأقوال أُمّي أن المنتحر يذهب إلى النار.

***

أنا وأبي ربما كان كل منّا يقرأ الأمور بطريقته من الزاوية التي يقف عليها.. كل منّا كان يرى أن الحق معه، فيما اليوم ربما صرتُ أتفهم كثير مماحدث، وألتمس له العذر، أو بعض عذر يستحقه، بحكم ذلك الواقع، وما أحاطته الظروف بنا، وكان أكبر من كلينا.

من أسباب قسوة أبي في بعض منها مراهنته على نتيجة القسوة في التربية، وفي بعضها الآخر يرجع إلى شقاوتي أنا أيضاً، وبعضها كانت بدافع حرص أبي على حياتي ومخاوفه مما يتهددني، إضافه إلى ما كان يعيشه من ضغوط الحياة، وزحمة المشاغل، بعد أن صارت عليه ثقيلة وكبيرة.

رغم كل شيء، كنتُ أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموتُ، وهو أيضاً كان يحبني، ويصاب بجزع إن تعرضتُ لمرضٍ أو لمكروهٍ يصيبني.

كنت أشعر أن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا ما زلت صغيراً لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وإخوتي. كنت أرى الأيتام وما يتجرعونه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.

وما يبديه أبي من قسوةٍ حيالي كان يراها في تقديره أنها تصب في صالحي، بدافع الحب والحرص والمخاوف، وربما يرجع بعضها إلى بعض طباعنا، وهي طباع في وجه منها نتاج واقع بائس وثقيل، ربما لا يد لنا فيه، ولطالما خرج أحدنا أو كلانا عن طوره في ذروة غضب أو نفاد صبر، أو بعض من هذا وذاك.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى