التكفير والتخوين والاحتراب
برلماني يمني
عبد الباري طاهر
الحرب في اليمن، وعليها قتلت الإنسان اليمني، ودمرت ومزقت الكيان والنسيج المجتمعي. والتكفير والتخوين غذيا الحرب، ونشرا الفتن، وأهانا الحضارة اليمنية، وأساءا أبلغ الإساءة للدين.
صحيح أن التكفير في الديانات -كل الديانات- قديم، سواء داخل الدين نفسه، أو مع الأديان المختلفة، وما حصل في بعض البلدان الأوروبية من إحراق القرآن الكريم كمظهر من مظاهر ازدراء الدين الإسلامي، وكراهة الإسلام والمسلمين، وعدم احترام لعقائد الآخرين، أو التقيد بالقيم الإنسانية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الإعلانات والمواثيق الدولية والحقوق.
في صدر الإسلام قاتل الخوارج علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فلم يكفرهم مع تكفيرهم له، بل دعا إلى الصلاة معهم، وعدم حرمانهم من نصيبهم من الغنائم رغم قتالهم وتكفيرهم له، وقال عنهم: “إخواننا بغوا علينا”.
في عهود الطغيان والظلام قُتِل أفضل الأئمة والعلماء، وانتشر وباء التكفير والتخوين لإشعال الحروب، وتأجيج الفتن، وقتل الإبداع، ومصادرة الرأي والحرية والاجتهاد.
في عصور الإسلام الزاهية اختلف أصحاب رسول الله وتابعوهم، واختلفت أئمة المذاهب الفقهية، وعلماء الكلام، وكان التكفير والتخوين سلاح السلطان لقمع المعارض، وإخافة المحتج، مستندًا إلى فقهاء السوء، ووعاظ السلاطين كتسمية علي الوردي، في حين قال الإمام جعفر الصادق: “لأن أخطئ في العفو أحب إلى من أن أصيب في العقوبة”. وقال الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب”. أما الإمام مالك، فيقول: “كل منا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر”؛ مشيرًا إلى قبر الرسول الكريم، وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة: “هذا رأي رأيناه، فمن أتانا بأفضل منه أخذنا به”.
بل إن حديث الرسول فيما ليس فيه وحي راي بشري، ومنه قصة تأبير النخل، وأخذ الفدية في أسارى بدر، والإذن للمتخلفين في غزوة تبوك، فعاتبه الله على ذلك: “عفا الله عنك لم أذنت لهم”. الآية.
وقد انتشر التكفير في الكثير من البلدان الإسلامية، ومثل كتاب “المصطلحات الأربعة”، لأبي الأعلى المودودي، ثم “كتاب معالم على الطريق”، لسيد قطب، و”جاهلية القرن العشرين”، لأخيه محمد قطب- مثلت قرآن أو أناجيل التيارات التفكيرية والمتطرفة؛ ولانفصال باكستان عن الهند، وموقف الهندوس ضد المسلمين دخل في التكفير، وكثيرًا ما يبرر غلو أحمد بن تيمية الحراني أنه في مواجهة غزو التتار، ووجود كيانات تابعة لهم، ومع ذلك، وعلى الصعيد النظري، فإن هذا الفقيه يقول في (الفتاوى)، 8/ 30: “إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم بالحجج العلمية؛ فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن يقلد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه”.
وقالت الزيدية: “لا نكير في مختلف فيه”، ورأت الحق متعددًا في قاعدتهم الاعتزالية: “كل مجتهد مصيب”، وجواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل، ورفضت تكفير أبي بكر وعمر وعثمان، كما هو مذهب زيد الذي رفض البراءة منهم.
في العصور الحديثة في المنطقة العربية تتبوأ السياسة والصراع السياسي الصدارة في امتشاق أسلحة التفكير والتخوين. ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وقتال دام أكثر من ستة أعوام كان التكفير والتخوين سيد الموقف في التحاور بالسلاح، وكان إرث الثورة القومية في مصر والعراق وسوريا من التفكير والتخوين فادحًا.
بعد هزيمة 1967، وموت الزعيم العربي جمال عبد الناصر استخدم السادات الإخوان المسلمين في مواجهة الخصوم السياسيين من القوميين الناصريين والتيار الماركسي، ولم تنجُ الساحة العربية كلها من وباء التكفير والتخوين، وهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما خطر على حرمة الدم، ولكن خطر التكفير أنه متوسل المقدس، فيكون خطره أكبر، وأثره أبلغ، خصوصًا في مجتمعات الأمية الابجدية والمعرفية، والعصبية الاعتقادية فيها شديدة الحضور والحساسية؛ فبمجرد تكفير جار الله عمر في اليمن، بادر سلفي متعصب لقتله، وهو نفس ما تسبب في قتل فرج فودة، وتهديد حياة الأديب المصري نجيب محفوظ، وأدى إلى التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجه، وإرغامه على الفرار من وطنه بعد إهدار دمه.
التكفير والتخوين سلاحان خطيران؛ لإشعال الفتن والحروب، وترويع وتصفية الخصم السياسي في كل زمان ومكان، ولكنهما في اليمن يكاد الطاغية الفاسد يحتكر توظيفهما، كما أن الجار السعودي حاضر بقوة في نشر الأفكار التكفيرية شديدة التطرف والعنف، كما غذت وتغذي السعودية الصراعات البينية منذ تأسيس الكيانين الوطنيين مطلع القرن الماضي، وتخلصت السعودية من وباء التفكير، لكن الإرث الوبيل لا يزال يفتك بالعديد من البلدان في آسيا وأفريقيا.
الثورة الإيرانية بعد أن استولى عليها الآيات، وتحولت إلى جهاد كلي طائفي ودعوي، نافست الوهابية، وتشاركا في تحويل الموعظة الحسنة، والدفع بالتي هي أحسن، إلى قطع للرؤوس، وإخماد للأنفاس في غير مكان، وتفتيش الضمائر.
يتنافس السلفيون، وأنصار الله الحوثيون على من يكون الأكثر تعصبًا وتشددًا في استخدام المقدس، وتحويل المساجد التي “أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه”، إلى مقاصل وألغام، وقنابل تغتال السكينة والأمن، والسلام والاستقرار.
يحتكر قادة المليشيات في الشمال والجنوب، والشرق والغرب أسلحة التخوين، ويحتكر السلفيون، وزبانية “الهوية الإيمانية” التكفير؛ لإشاعة الحروب، وغرس الفتن، ومصادرة الحرية، والحق في الحياة والمواطنة، وتحويل اليمن التي لم تعرف الجاهلية في العصور القديمة إلى دار كفر وجاهلية، يتصدى لنشر الإسلام فيها أميون معرفيًا ودينيًا.
في الأسابيع الأخيرة، ومن منابر المساجد، يُكفَّر أحمد سيف حاشد النائب في البرلمان، والدكتور الأكاديمي إبراهيم الكبسي؛ لا لأنهما أنكرا معلومًا من الدين بالضرورة، وليس للإساءة للدين الإسلامي، وإنما لأنهما ينتقدان فساد حكام الأمر الواقع، ويدينان خرافة الاصطفاء، والمتاجرة بالدين، وأن يعطي الحكام لأنفسهم مالم يعطه الله للأنبياء والمرسلين في الحكم بالهوية الإيمانية، والتفتيش في ضمائر الناس ومعتقداتهم.
تكفير الدكتور إبراهيم الكبسي وحاشد لانتقادهما الفساد والطغيان فضيحة دينية ودنيوية وأخلاقية لسلطة انتزعت الحكم بالقوة، وبدعاوى محاربة الفساد والاستبداد، وتحاول احتكاره لأسرة واحدة.
فأين هؤلاء من سماحة الإسلام، والفهم لنهجه وروحه؟! يروي زاهر ابن أحمد السرخسي- أحمد تلاميذ الإمام الأشعري-، فيقول:” لما قرب حضور أجل أبي الحسن الاشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علىَّ أني لا أكفر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات”. وهو صاحب كتاب “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين”، وتتخذ العبارة بعدًا أشمل وأوسع عند الداعية الصوفي محيي الدين بن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة * فمرعى لغزلان وبيت لأوثانِ
ودير لرهبان وكعبة طائفٍ * وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنى توجهت* ركائبه فالحب ديني وإيماني
أما الشاعر الإنجليزي جون ملتون صاحب “الفردوس المفقود”، فيرى أنه: إذا أجمعت البشرية جمعاء على رأي، فليس من حقها أن تفرض هذا الرأي على رجل واحد يخالفها، بالقدر الذي ليس من حق هذا الواحد إذا حكم أن يفرض رأيه على البشرية كلها.
المصدر : بلقيس