(2)
محاولاتي الفاشلة في كتابة القصة
أحمد سيف حاشد
موقع برلماني يمني:
كنت أشعر أن السلك العسكري ليس الشاطئ الذي أبحث عنه، وليس مستقري إلى آخر العمر، ولن يكون محطتي الأخيرة.. لطالما شعرتُ أن هناك فراغ يبحث عني ليمتلئ، أو أنا أبحث عنه لأملئه.. أبحث عن ذاتي وأفتش فيها عن وجهتي القادمة.. كنت دوما ما أحاول أن أعيد اكتشاف نفسي، وعندما لا أجدها انطلق مرة أخرى إلى وجهة جديدة لعلّني أجدها..
حاولت أكتب القصة القصيرة قبل ستة وثلاثين عام، ولكنني فشلت، وانقطعت عن كتابتها، واليوم أعود إليها لأكتب قصتي.. ربما هو الفشل الذي قال عنه “هنري فورد “يمنحك فرصة جديدة لكي تبدأ من جديد، لكن هذه المرة بذكاء أكبر”.. إنها العودة بعد عقود من الحنين.. غير أن الأهم إنها ليست قصتي وحدي، ولكن أيضا قصة من فشلتُ أن أكتب قصصهم.. قصة من أعبر عنهم وأنتمي لهم..
اليوم استحضر قصصهم في أنفاس قصتي، وما ينبض به قلمي الوفي معهم.. وبتقنية ربما تتمرد عن المعايير والقواعد المعتادة، ولكن وهو الأهم، أسعى إلى أن تبلغ الوجدان، وتحفز الوعي، وتعمل في الواقع، وتستقر في الذاكرة..
سأكتب عن المعدمين والفقراء المكدودين والمناضلين الشرفاء في وطني.. عن معاناتهم التي لا تنتهي، والعقول المستلبة بـ “الأفيون”، والظلام الكثيف الذي يثقل الوعي والكاهل، والجهل والتجهيل الذي يبدد المستقبل.. سأكتب عن وطنهم المصادر، ووحدتهم المذبوحة، وثورتهم المغدورة، وأحلامهم التي نُهبت، ومستقبلهم الذي ضاع.. كل هذا سأكتبه دون أن أفقد الأمل باسترداد كل ما ذهب..
سأكتب عن الحرب والسلام، ونظام التوحش، والعالم الغير عادل.. عن البؤساء والمعذّبين في الأرض والضحايا الكُثر.. عن المنتهكة أعراضهم، والمهدرة حقوقهم والمنتعلة أحلامهم.. سأكتب عن الجوع والجهل والمعاناة، والمستباح أوطانهم، وعمن لا وطن لهم ولا مأوى.. سأكتب عن السجون والزنازين والتعذيب، وممارسات القمع الظالم والطغيان الذي عشته، أو شاهدته بأم العين، أو أنقله عن شهود عيان..
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف، إلا أنني أزعم أنني لازلت وفيا لبسطاء الناس ولقضاياهم العادلة.. وسأبذل ما في الوسع والمتسع، لأكتب عن الحب والجمال والعشق والفرح والحياة.. عن الحزن والندم.. عن الطفولة والشباب والمدرسة والجامعة.. عن الفساد المهول والمفسدين والفاسدين، وقبح الساسة ودمامة السياسة عندما تتعرى من الحد الأدنى للأخلاق ، والجهل الذي تسلط واستبد وبلغ الطغيان..
ربما أخطئ هنا أو هناك، ولكن من هذا الذي لا يُخطئ؟! لي في حسن النية عذر وشفاعة، غير أن الأهم أن أفي وأخلص مع الضحايا حتى رمقي الأخير.. وأزعم أن كل أو جل مواقفي وانحيازي واصطفافي لم ولن يكن إلا لهم، أنا الفقير الحالم الذي ولدت بينهم، وعشت من أجلهم، وسأموت وفيا لهم، ولقضاياهم العادلة.. أحمل رسالتهم، واساهم بما اقدر في تحرير وعيهم من الوهم والاستلاب، وتحرير واقعهم من الفقر والظلم والاضطهاد..
تشكل وعيي في خضم المعاناة، وقراءتي المتواضعة هذبتني وصقلت وجداني، وجعلتني أنتمي أولا إلى الإنسان أينما كان.. انحيازي لم ولن يكون إلا للقضايا العادلة للفقراء والمعدمين والتائهين الهائمين على وجوههم، الباحثين عن العيش الكريم، والكرامة المفقودة، والحرية التي سقفها السماء، والمستقبل الذي نروم..
قرأت في زمن باكر رواية “قرية البتول” لمحمد حنيبر، ولطالما سفحت عيناي بدموع الملح السخينة، وأنا أقرأها بانغماس عاطفي جياش.. لازالت عالقة في ذهني إلى اليوم تلك الفتاة المغتصبة، ومثلها أيضا الشغالة السوداء التي تم اغتصابها في إحدى قصص الروائي والقاص اليمني محمد عبدالولي.. وفي رواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط” لازالت قصة رجب حاضرة في ذاكرتي إلى اليوم.. رجب الذي قضى خمس سنوات في إحدى المعتقلات العربية، وعاش فيها التعذيب الجسدي والنفسي الذي بلغ أكثر وأكبر من أهوال القيامة.. وأيضا رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، وفيها مأساة الرجال الثلاثة أبو قيس وأسعد ومروان، ونهايتهم الحزينة والمأسوية، التي تنتهي بموتهم داخل صهريج من حديد، ومن ثم سحبهم إلى إحدى مكبات النفايات.. إنها رواية رمزية وفيها صور كثيفة تحكي جانب من معاناة ومأساة الشعب الفلسطيني..
***
في لواء الوحدة حاولت أطرق بابا، شعرت في فترة لاحقة أنه ليس بابي.. أول محاولة لي في كتابة القصة القصيرة، كانت في 30/5/1984بعنوان “الانتظار مرة أخرى”، وهي محاولة تكشف عن مفارقة حال الفقراء المتعبين المكدودين المثقلين بالجبايات والظلم، والشيخ أحمد وأعوانه وسلطته الظالمة والمستبدة التي ثار عليها الشعب بعد أن طفح به الكيل، وانتصار الثورة إلى حين، ثم اغتيال هذا الانتصار بعد خمس سنيين من الولادة والمقاومة، بتحالف أعاد الأمور إلى سابق عهدها، وإن كان بصيغة أخرى، ثم الانتظار مرة ثانية لفارس قادم يأتي مع الفجر ممتطى صهوة جواده، وممتشق حسام النصر، وحاملا الأماني البعاد والآمال العراض..
تم نشر هذه المحاولة المبتدئة في صحيفة الراية بتاريخ 30/9/1984 في الصفحة الأدبية، بعد أربعة أشهر من انتظار نشرها.. ولكن خطاء الطباع بتقديم صفحة على أخرى خلافا لترتيبي للصفحات أصابني بالإحباط والخيبة، حيث بدأت القصة مشوهة وغير مفهومة، الأمر الذي نال كثيرا من فرحتي، ومع ذلك اعتبرت إجازة النشر في حد ذاته مكسبا خفف من وقع الخيبة التي اصابتني، لأن النشر كان أمل يتيح لي فرص قادمة لعطاء ونشر أكثر، ولكن عندما ارسلت بعدها بمحاولات عدة في كتابة القصة القصيرة، لم يتم نشرها، وشعرت أن كتابة القصة ليست مجالي، ولست فارسا في ميدانها ولن أكون، أو أنني لا زلت بعيدا جدا عن تقنيتها، وعن امتلاك ناصية القلم فيها، فعزفتُ عنها بعد فشل وتكرار.. واليوم وبعد 36 عام أحاول أن أعود إليها، ولكن بعد تراكم معرفي، وطريقة ربما أكثر ذكاء من ذي قبل..
محاولة ثانية في كتابة القصة القصيرة كانت في 5/11/1984 عنوانها “الوفاء حتى الرمق الأخير” وهي دون مستوى النشر كما أراها اليوم، ولكنها كانت ولازالت بعض مني، والتي شبهتُ فيها اليمن بـ”رندة” حبي الأول واسم ابنتي اليوم، وقد استهللت القصة بامتلاكها قلب محبوبها المسحور بحبها وفارس أحلامها الذي كان من “شرعب” اليمن أو من يمن “العدين”، وأشتهر باسم “مصطفى البرزاني” وهو بطل حقيقي، أنحاز للفقراء والمعدمين وللقيم والمبادئ التي يؤمن بها، وفيها مشاهد عدة بينه وبين السجّان، وضابط التحقيق، وما عاناه مصطفى من ضرب وتعذيب شديدين في الزنازين والمعتقلات وغرف التحقيق.. وكيف ظل مكللا بالكبرياء والعناد والتحدي في وجه جلاديه الطغاة، ثم أمام المحكمة التي أستطاع من داخلها أن يحولها إلى متهم، ويتحول هو إلى محكمة.. وأنتهى الأمر به إلى تنفيذ الحكم بإعدامه.. والقصة تحكي وفائه لمحبوبته “رندة” اليمن حتى لفض آخر أنفاس حياته.. إجمالا كانت تلك المحاولة بعض منّي، وربما تحاكي أشياء في أعماقي.
في 27/11/1984 كتبت محاولة أخرى تحت عنوان “الاستغاثة للمرة الثانية” استهللتها: ” الليل يتباطأ ويأبى مبارحة المدينة وكوابيس العصور الوسطى تكاد تكتم الأنفاس.. ثالوث الشر يزيد السماء حلكة وقتامة.. مؤشر الوقت يشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل.. الظلام دامس يخيم بستار كثيف من الصمت المطبق على كل الأحياء الفقيرة التي طواها البؤس بجلبابه الأسود المصنوع من طقوس وبلادة أفكار رجال الدين وأصحاب المال والثروة.. كل الأحداق الزائغة الملتاعة مشدودة إلى الأفق.. تتوق إلى الآتي.. وجوه الفقراء كالحة تطفح بالشوق إلى المستقبل.. بصيص من الأمل يشق زحام اليأس، وينفذ إلى وعي وأعماق المتعبين المكدودين ليبدد لديهم كلمة “مستحيل”..
تبدأ هذه المحاولة بشرح الواقع ثم بصيص الأمل الذي يكبر ليبدد في النهاية ما كان مستحيل.. تم الاستيلاء على المركز الذي يرزح تحت وطأته الفقراء والبؤساء والمحرومين.. يحتضر الليل ويتمطى الفجر على رحاب المدينة، ويطلع النهار ساطعا، وتبتهج الوجوه الشاحبة.. ولكن هذا الحال لم يستمر طويلا؛ فقد داهمت الغيوم السوداء الداكنة سماء المدينة، وغاصت المدينة مرة أخرى بمعاناة شديدة، ومع ذلك ظل الأمل الملتاع لانتصار قادم لا ينطفئ..
في 25 /3/1985 كتبت محاولة تحت عنوان “رغما عن مشيئة الأعداء” تحكي رحلة نضال إلى الوحدة تنتهي بإرسال الشمس أشعتها إلى كل ذرة تراب مشطورة لتبعث فيها التجدد والوحدة والحياة.. وكنت قد استهللتها بالقول: كانوا يدركون جيدا إن الدرب الذي اختاروه طويلا وشاقا وسيكلفهم الكثير، ولكنهم مع ذلك كانوا وبنفس القدر على ثقة ويقين من الوصول؛ فالمسافات تتلاشى وإن ترامت في المدى، طالما وجد الأوفياء ذو البذل والعطاء ونكران الذات، الذين يملكون القدرة على المبادرة والاستمرار في اقتحام المخاطر، والتغلب على الصعاب والمتاعب، من أجل يسعد أبنائهم وأحفادهم..”
اجمالا كان دوما الفقراء والشرفاء والأوفياء هم الأكثر حضورا في محاولاتي القليلة، وكنت أكثر انحيازا لهم، وجُل تلك المحاولات تتحدث عن الحال قبل ثورة 26 سبتمبر وبعدها واغتيال الثورة في 5 نوفمبر 1967.
ورغم أن كل محاولاتي تلك في كتابة القصة تفتقد للمعايير الفنية، إلا أنها بعض منّي كيفما كانت.. بعض من مشاعري ووجداني، ومنهم أيضا، وهم الفقراء والمعدمين وكل الكادحين.. كانت تلك المحاولات مسكونة بالنزوع إلى المثل والقيم والأحلام، وجذوة الأمل المقاوم لخمده و وئده..
لم أستطع النسيان، ولا مقاومة الرغبة والحنين، بل وجدت نفسي أحاول مرة أخرى، وإن حدث هذا بعد عقود ما كنت أظن أنني سأعود بعدها، أو أحاول مرة أخرى.. وفي مثل هذا الصدد أو مقاربا له يقول الروائي البرازيلي باولو كويلو: “لا يستطيع الانسان مطلقا أن يتوقف عن الحلم.. نرى غالبا خلال وجودنا أحلامنا تخيب، ورغباتنا تحبط، لكن يجب الاستمرار في الحلم وألا ماتت الروح فينا.. لكل شخص الحق في الفشل من وقت إلى آخر، لكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع فعله هو نسيان ذلك. عندما نريد شيء ما يتآمر الكون كله ليسمح لنا بتحقيق حلمنا.”
وأظن شيئا من هذا قد حدث على نحو أو آخر.
***
يتبع..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
Ahmed Seif Hashed channel on telegram
Ahmed Seif Hashed group on telegram