(4)
وجبة غريبة ومواقف محرجة
أحمد سيف حاشد
طاولة طعامنا في الفندق كانت تتسع لنا، وللمكلفين من الجانب الروسي واليمني لمرافقتنا.. الطاولة مكتظة بكل شيء تقريبا.. بازدحامها وتنوعها بدت لي وكأنها مائدة نزلت لنا من السماء.. الطعام متنوع وأكثره لا أعرفه، والمشروبات لا أدري ما هي! لم استطع أن أميز بين ما يُشرب وما يُحتسى، ولا بين الشربة وأخواتها، ولا حتى بين “الفودكا” والماء، بل وبين الماء والماء!!
أباريق وكاسات أنيقة تجلب لك الإحساس بالفخامة، ويدفعك فضولك إلى تجريبها كلّها، واحدة واحدة.. مناديل ورقية، وبعضها من القماش تشعرك بالخسارة وأنت تمسح بها فمك.. تشعر أنك تعبث بالأناقة التي يفترض أن تعتني بها، أو تتغنّى وتتغزل بجمالها..
أدوات الأكل الكثيرة لا أجيد استخدام جلّها، ولا أعرف تراتبية هذا الاستخدام، ولا الوقت والشيء الذي أتعاطى معه من خلالها.. بعضها أراها للمرة الأولى، وبعضها لم يسبق أن تعاملت معها، ولا أدري شيئا عن استخدامها..! قواعد “الإتكيت” هنا احسست إنها الغربة كلها.. وجدت نفسي معها للمرة الأولى في تحد وجها لوجه..
شعرت ابتداء أن هناك عقبات شتى أمامي، ومواقف محرجة تنتظرني.. أحسست أنني أكاد أكون على طاولة امتحان لا على طاولة طعام.. والأسوأ أنني أقدم على هذا الامتحان دون تعليم، أو دروس أعطيت لي من قبل في هذا المجال..
فقلت لنفسي:
-
لا تفوق هنا ولا أول.. أنني فاشل لا محالة.. كل شيء هنا أو أغلبه بالنسبة لي كان جديدا، ويستحق منّي كل جديد شهادة براءة اختراع.. صنوف كثيرة ومتعددة أتعامل معها للمرة الأولى.. ليس لدي تجربة من قبل، وهذه هي الزيارة الأولى التي أخرج فيها من اليمن، بل وأيضا المرة الأولى التي أنزل فيها في فندق، فضلا عن فندق بهذه الدرجة من الفخامة..
كانت الأسئلة تزدحم في رأسي وأنا أستهل قعودي خلف طاولة الطعام: من أين أبدأ؟! وماذا أصنع بكل هذا الذي أمامي؟! وماهي الحدود التي تفصل بين المخصص لي والمخصص لمن هما جواري.. ازدحام واكتظاظ في وجبة لا أعرف حدودها.. كيف اتعامل مع ما هو أمامي؟! وما هذا الذي سآكله؟! كل ما هو موجود أمامي في أغلبه ليس لدي فيه سابقة أو جهاد.. لم يسبق لي أن أكلت مثله من قبل!!
قطعة من القماش أمامي مبرومة على نحو هرمي وأنيق لا أدري ما هو الداعي لها، وأخرى كانت أكبر ومرتبة بعطفات أمامي لا أعلم ما لزومها.. كان عليّ أن أنتظر وأرى ماذا يصنعون بهما، وعندما شاهدت الجنرال الروسي يضع إحداها على صدره، والأخرى على نصفه الأسفل.. تسألت مع نفسي: ماذا يفعل هذا؟!
لم أستوعب ماذا يفعل، ولماذا يفعل هذا!! ومع ذلك قمت بتقليده كطفل يقلّد أباه، بل شعرت أنني أمارس غش خجول لم أتعلمه في المدرسة.. كنت أختلس النظر إلى ما يفعل، وأفعل مثله بغش مرتبك، وأداء ضعيف وركيك.. ثم قلتُ لنفسي: لابأس سأعتبره طقس من الطقوس الذي يمارسونه قبل تناول وجبة الطعام، والتقليد هنا جائز شرعا.. حاولت أن أحبس ضحكة في جوفي، وابتسمت بحذر تعويضا عن القهقهة التي قمعتها بشدة، وقد كان اندلاعها وشيكا كجلجلة..
شرعت بالأكل والغش المرتبك، حتى وجدت قطعة القماش التي على صدري، تنساب إلى الأسفل بسبب حركات جسمي أثناء تناولي للطعام، فيما كانت قطعة القماش السفلى قد تدحرجت إلى الأرض دون أن أعلم، ولم أنتبه لأمرها إلا بعد الانتهاء من الطعام، وقد أشبعتها رفسا ودعسا.. همهمت في نفسي وأنا أصب سخطي عليها قائلا: أيش نزّلها؟!! لقد نالت ما تستحق!!
أول مرة أستخدم الشوكة والسكين معا في تزامن واحد.. في الطائرة استغنيت عنهما، وأكلت وجباتها بطريقتي، وكذلك فعل زميلي الآخر الذي كان جواري في المقعد.. أما الآن وأنا في حضرة الجميع أستصعب عليّ الأمر.. وعندما كنت أحاول ضبط الشوكة والسكين بين اليدين والأنامل لم أستطع أن أقلّد الجنرال.
شعرت أنني أحتاج إلى درس خاص لأتعلم الأمر، ولا يوجد هنا متسع لأتعلم وأحفظ الدرس.. كان أدائي ضعيفا في التعامل مع السكين والشوكة معا. وجدت هذا الفعل مستصعبا؛ وزائد على هذا لو استطعت أن أستخدم يدي اليمين بكفاءة، فلن أستطيع استخدام يدي اليسرى بنفس كفاءة اليد اليمين؛ وهروبا من هذا وذاك اخترت التعامل معهما بالطريقة التي تروقني، وكانت أكثر فاعلية، ولكنني شعرت أنني أخرج أحيانا عن النص كثيرا، بل وكنت أقع في أحايين بمواقف محرجة..
ظننتها فاكهة صغيرة دون أن أدري ما هي بالضبط.. كان لونها أسود.. يا لسوء الظن!! الحقيقة لم أكن أعرف كيف يمكن التفاهم معها!! وضعت السكين في وسطها، وشرعت في الضغط عليها من أجل قطعها، فيما يدي الأخرى الماسكة بالشوكة كانت تحاول اسنادها من الجانب حتى لا تنزلق، ولما كانت نواتها صلبة، وقشرتها غير سميكة، وكان ضغطي عليها شديد، خرّت إلى أقصى الطاولة كشهاب ثاقب.. ضربت عدد من الأوعية عند انزلاقها وكأنها كرة بلياردو.. أحدثت أكثر من صوت أنتبه له الجميع، ولمح بعضهم مروقها من أمامه..
بعضهم لم يعرف ماذا حدث وأخذ يسأل!! وآخرون ظنوا أن أحدهم رمى بشيء على الطاولة!! إلا أن جميعهم كانت تكسوا وجوهم علامات الاستغراب والعجب، فيما أنا غارق في ذهول لم تلطّفه ابتسامتي الجافة والتي بديت فيها كأنني سرقتها من مومياء عمرها ثلاثة آلاف عام..
لا أدري ماذا أقول!! ارتباكي الشديد وخجلي الأشد جعلهم يخمنون أنني مصدر ما حدث.. صوّبوا سهام عيونهم نحوي، فيما زميلي الذي بجواري حاول يفهمني إن حبة الزيتون يضعونها في الفم ويلتهمون قشرتها، ويخرجون نواتها ويضعونها جانبا؛ فطلعت ضحكتي حينها، وضحك الجميع، وقد أدركت أي حماقة ارتكبت..!
لديهم نوع من الماء المعدني يختلف عن ذلك الماء الذي أعتدتُ عليه.. فتحت القنينة وملأت الكأس الزجاجي الذي أمامي، وما أن شربت جرعة منه حتى تفاجأت أنه ليس كذلك.. طعمه حمضي على قلوي على نجوم العفاريت .. إنه شيء مختلف.. لا يمكن ان يكون هذا ماء بأي حال.
– قلت للزميل الذي في جواري: هذا ليس ماء..
قال: هذا ماء معدني..
– قلت: بإمكانهم أن يعتبروه أي شيء إلا أن يعتبروه ماء..
قال: خذ هذه.. وناولني قنينة أخرى من على الطاولة.. وبالفعل كان ماء ولكن ليس كماءنا..
كثير من الأطعمة التي تناولتها لا أعرف ما هي.. كل نوع أتناوله كان يشبه ضربة حظ، ربما يكون شهي، وربما يكون مقبول، وربما يفسد وجبة الطعام كلها..
من “الإتكيت” إذا أشبعتك الوجبة التي أمامك، ضع وجه الملعقة والشوكة على الصحن إلى أسفل وظهرها إلى الأعلى.. ولما كنت لا أعلم بهذا تركت الملعقة والشوكة دون أن أدري إنها تعني “لم أشبع” فجاء النادل بوجبة إضافية.. أحترتُ واستغربتُ وسألتُ نفسي: لماذا أنا دون غيري.. ثم ملت على زميلي وقلت له:
– أنا لم أطلب!! أنا شبعت!! لماذا خصني بوجبة اضافية؟!! ولماذا أنا بالتحديد؟!! وسخرت من النادل بسؤال: هل راني آكل بنهم وشراهة؟!
فأجابني زميلي: كان يجب أن تقلب الملعقة والشوكة؛ لتعلمهم أنك اكتفيت بما أكلت.. الآن عليك أن تستكمل أكلها.. الإبقاء على طعام هنا أمر يزعجهم كثيرا.. يجب أن تكمل حتى آخر لقمة.. طلبت منه أن يعينني في الأكل الإضافي، ولكنه أعتذر ورفض لأن معدته قد امتلأت، فكان علي أن أرغم وأراغم نفسي على الأكل حتى آخر لقمة، وكدت بعدها أن أتقيأ من إفراط ما أكلت.
***
يتبع..
- الصورة في فولجا جراد – الطلاب الاوائل في الكلية العسكرية عدن الدفعة العاشرة
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page