(3)
اجتماع الجوع والخجل !
أحمد سيف حاشد
كنّا في أيامنا نعيش الجوع، ونراغم أقدارنا، ونستطيع أن ننتزع الحياة من مخالب الموت جوعا، أما اليوم فشعب يموت كل يوم، وعليه تكالبت كل القذارات والمافيات والنفايات.. الموت عبثي وباذخ في عالم يعترشه الطغاة والمتخمون والتافهون.. عالم تواطأ وتمالا على قتلنا بحرب توحشت إلى أقصى مدى، ورعاة من جهنم يرفضون وقفها أو أن تضع أوزارها، وحصار غشوم يطبق بكلي يديه ويضغط بكل قواه على أفواه من فلت من الموت أو بقي منّا على قيد الحياة.. حرب صارت مربحة وتغرق أصحابها ثراء ووفرة لمن يحوّلون دماءنا وجوعنا ومجاعاتنا ومآسينا العراض إلى أرصدة..
***
جعتُ كثيرا.. جالدت الفاقة والحاجة والعوَز.. عانيتُ من الهزال والضعف والضنك المُنهك للجسد والروح.. عشت سنوات طوال سوء التغذية، و“فقر الدم”، ومشكلات في الغدة الدرقية، وتورّمات مرضية في القدمين، فضلا عن الأميبيا والجارديا، ونوبات الحمى التي كانت تداهمني بين فترة وأخرى..
عندما تعتريني الحمى كان جسدي يستلذ ويستمتع بالبقاء تحت أشعة الشمس فترة أطول، وأتمنى أن تشتد حرارتها، ثم ما أن أفرغ منها، اكتشف أن الحمى تزداد وتشتد.. تستقوي وتستأسد على جسدي المنهك والهزيل.. أما ما يطلقون عليها في قريتنا “شمس الميات” التي تودعنا بإحمرار وبهوت، وهي تذوي نحو الغروب؛ فكانت تذكّرني بسوء صحتي المتدهورة، وأخواتي الراحلات نور وسامية..
في مرحلة إعدادية القسم الداخلي بـ “طور الباحة” كانت وجبات القسم المقررة لا تكفيني أو لا تشبع جوعي إلا في حده الأدنى لأستمر في حياة ضنكة ومنهكة، نقضي جلّها في صراع مرير، ورغبة مستميته من أجل استمرار البقاء بمعاناة ومشقة بالغة..
كانت أمي تواسيني ببعض النقود التي تجمعها لي بصعوبة ومحال، لتخفف عن كاهلي معاناة الجوع، وتحملني على البقاء والحياة من أجلي وأجلها، ومستقبل كان لا يزال غامضا ومجهولا..
وفي ثانوية القسم الداخلي في مدرسة “البروليتاريا” كان طلبة القسم الداخلي كثيرون، وكانت طوابير العشاء والغداء طويلة، وكان أحيانا ينفذ العشاء قبل أن أصل إليه، وأحيانا أدرك القليل منه، وقد أوشك على الانتهاء..
كنت مسكونا بالخجل والحياء الذي يمنعاني من المزاحمة، بل وأخلاقي أيضا كانت تمنعني تخطّي من هم في الطابور قبلي مهما أشتد عليّ الجوع أو شعرتُ أنني لن أصل إلى وجبتي المخصصة، فيما كثيرون من الذين بعدي في الطابور يتخطونني بجرأة وصفاقة لأجد نفسي شيئا فشيئا آخر الطابور دون عشاء.. كنت أصل إلى قرب نافذة الاستحقاق، فأتفاجأ إن العشاء قد نفذ، وربما عند حسن الحظ أظفر بالقليل من القليل..
أحيانا وبسبب خجلي كنت أنام دون عشاء، أو أذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك حسين إلى أشجار “الديمن” التي تسيّج جانبا من محيط المدرسة، لنقطف بعض ثمارها التي لم تنضج بعد، أو لازالت بعيدة عن النضوج.. كان الجوع أحيانا يضيِّق علينا، وكنا نتجه نحوها مضطرين، ولم نسمح لها بسبب جوعنا أن تبلغ ثمارها النضوج.. كان جوعنا أحد من المدية، وأسبق في القطاف، فيما هي تنشب بحّتها الخانقة، وأظافرها المحتجة في حناجرنا المحاصرة بالجوع.. لقد فقدت عون أمي، بسبب البعد وطول الغياب..
أحيانا كنت أذهب مع آخرين متسللا تحت جناح الليل إلى المزرعة البعيدة لأحصل على بعض حفن السمسم ونعرّج أحيانا على أشجار الليمون، لنقطف بعض حباتها، لنأكلها بقشرها، أو نستخدمها على وجباتنا لتحسينها وتحسين مذاق الفاصوليا المطبوخة على نحو رديء وسيء..
***
حللتُ ضيفا في إحدى العطل السنوية عند قريب لنا في عدن.. أظن أن نزولي إلى عدن يومها كان لعلاج مشكلة في الغدة الدرقية.. طبيب ألماني في مستشفى النصر شخّص حالتي، ولزمت فراش المستشفى فترة لم أعد أتذكر طولها، ربما كانت بحدود الأسبوعين على الأرجح..
غذاء المستشفى الذي كان يؤتى به إليّ متنوع وشهي وصحّي، ليس فيه طابور أو متابعة أو خجل.. كانت تأتيني الوجبات إلى الطاولة جوار سريري في الوقت والميعاد المحدد دون تأخير.. وفي السرير جواري توجد أم وطفلها من يافع، كانت جميلة وطيبة وتعاملني كأم وبعاطفة تملئ فراغي، والممرضات هناك كنّ على درجة كبيرة من الاهتمام والمسؤولية، والطبيب الألماني المختص أكثر اهتماما ووعيا بمسؤوليته.. سلام الله على الأطباء الألمان الذين كانوا شديدين العناية والحضور في كثير من التفاصيل على هذا المستشفى التابع لوزارة الداخلية.. خرجتُ من هذا المستشفى وقد تعافيت تماما، وصرتُ أشعر أنني بقوة حصان.. أنتقلت للإقامة لبعض الوقت عند قريبنا عبد الكريم هزاع في حي القطيع بـ “كريتر”.
في الغالب كانت وجبة الغداء الرئيسة لدى هذه الأسرة التي أقمت لديها مكونة من الرز وسمك “الزينوب” و”الصانونة” و”العُشّار”.. وجبة شهية جدا بمقياسي.. من يومها إلى اليوم وأنا أحب هذه الوجبة، واشتهيها.. المشكلة التي كنتُ أعاني منها هي خجلي والحياء الذي يحتلني ويتملكني إلى حد لا يصدق.. كنت لا آكل غير نصف حاجتي وأحيانا أقل من النصف بكثير..
في عدن معتادين، أو على الأقل مع الأسرة التي أقمتُ عندها، أن لا يتم تقديم الرز والسمك دفعة واحدة، حتى لا يرمون بفائض الوجبة الزائد عن الحاجة إلى كيس القمامة.. هي عادة حسنة ولكني يومها لم أفطن لها، ولم أكن أدرك سببها والحكمة منها..
كان كل ما تم اكمال ما في الصحن أو قبل انتهاء ما تم غرفه أولا، أغادر المائدة مباشرة، قبل أن يتم غَرف كمية إضافية من دست الرز الموجود جوارنا إلى الصحن التي نأكل منه.. كنت أغادر المائدة بمجرد الانتهاء من التهام ما تم غرفه في المرة الأولى أو حتى قبل الانتهاء منها، فيما كانوا يعاودون الغرف مرات عديدة تصل إلى الثلاث والأربع غرفات.. كان حرجي وخجلي هما من يحملاني على المغادرة وعدم الانتظار أو الالتفات إلى غَرفة ثانية.
بسبب خجلي وحيائي الغير طبيعيين كنت أغادر المائدة بمجرد أن يتم استغراق كمية الرز الأولى.. أما السمك فلا آكل منه إلا قليلا جدا، محكوما أيضا بخجلي وحيائي الشديد.. كنت ما استهلكه من السمك في كل لقمة لا يزيد عن حجم حبة الذرة أو نصف عجرة التمر إن بالغتُ في جُرأتي رغم وفرته، فضلا إن بعض لقيماتي كانت لا تصطحب سمكا بهذا الحجم أو ذاك، فيما كانت شهيتي الحقيقية إن أطلقت عقالها وأعنانها أخالها لا يكفيها وجبة خمستهم من الرز والسمك و”العشّار”.. ربما تلك الشهية المكبوتة والمقموعة بالحياء جعلتني أحب هذه الوجبة إلى اليوم واشتهيها بلهفة أشد..
لاحظ عبد الكريم هزاع وهو رب الأسرة طغيان الحياء والخجل في يدي ووجهي وهيئتي، وبدلا من الحاحه أن أرمي حيائي وخجلي بعيدا عن مأكلي، عالج الأمر بطريقة “داوها بالتي كانت هي الداء”.. كانت طريقته بديعة وعلى غير ما هو متوقع أو معهود بين الناس.. فبدلا من أن يلح عليّ بأكل قطع السمك قال: “أحمد لا يعجبه السمك”.. تظاهرت بموافقة لما قاله وبديت تعففي تماما عن أكل السمك.. ولم آكل سمكا في الأيام التاليات بمبرر أنني لا آكل السمك.. صرت نباتيا في سفرة وحضرة السمك..
وعندما طبخوا “زربيان” لحم وهي وجبة لذيذة، وقبل أن أمد يدي لتناول فرتيت منه، بادر بقوله: ((أحمد لا يحب لحم “الزربيان”)).. فقلت بحياء وخجل: ((أيوه .. أنا ما يعجبناش لحم “الزربيان”)).. تعمّدتُ تحت تأثير قوله إلى حرمان نفسي من لحم “الزربيان” أيضا، رغم رائحته التي كانت تشويني حيّا، وتشرِّح شهيتي، وتصلبني في دواخلي وأعماقي بصمت وخفية..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تكرر بعدها مع الدجاج؛ حيث قال قبل أن أمد يدي إليها: “أحمد ما يأكلش لحم الدجاج”.. فكابرت وأخبرتهم بالموافقة مع ابتسامة متكلفة، وشهدت زورا على نفسي أنه لا يعجبني لحم الدجاج..
وفي اليوم الذي يليه قال وقبل أن أمد يدي إلى الغداء: “أحمد لا يعجبه الرز والصانونة والعُشّار”.. ساعتها شعرت أنه حشرني في زاوية أنا وحيائي وخجلي ودفعني نحو خيار مستحيل لا استطيع أن أجاريه.. ضحك خمستهم بقهقهة وكأنهم كانوا على موعد معها إثر ما قال، وشعرت أن ما يفعله كان بدافع دفعي إلى مغادرة خجلي وحيائي، وأن احتفظ بما هو مقدورا عليه ومعقول..
رديت عليه هذه المرة بحسم لا يخلو من ابتسامة:
– أنا يعجبني كل شيء..
***
يتبع..
الصورة في يسارها عبد الكريم هزاع والبقية أنا وأخي عبدالكريم سيف وعيال أخي منصور على وندى وأم أخي علي..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
Ahmed Seif Hashed channel on telegram
Ahmed Seif Hashed group on telegram