كتبوا عنه

تعليق على مقال الجبيحي الذي تناول فيه كتاب فضاء لا يتسع لطائر للبرلماني حاشد

يمنات

جلال حنداد

تعليق على مقال الاستاذ يحيى الجبيحي الذي تناول فيه ناقدا كتاب – فضاء لا يتسع لطائر – السيرة الروائية للبرلماني أحمد سيف حاشد 

بالتزامن مع قراءتي لكتاب (فضاء لا يتسع لطائر) للبرلماني والسياسي اليمني أحمد سيف حاشد صادفني في احد المواقع الاخبارية (يمن فويس) مقال نقدي عن الكتاب منسوب للأستاذ يحيى عبدالرقيب الجبيحي أشار فيه لمجموعة من الأحداث والآراء والتناولات النقدية لوقائع معينة شدت انتباهي. ماآثرني أن أقف عندها واتناولها بالتعليق حتى قبل ان اكمل قراءة فصول الكتاب، والذي ربما سأكتب عنه تفصيلا عند اكمالي لقراءته.  

ولكنه وحتى ذلك الحين وبمناسبة ما كتبه الأستاذ الجبيحي وجدت أنه من الضروري بمكان أن اشير إلى مجموعة من المعطيات والملاحظات حول مقال الجبيحي مدفوعا بمزامنة المقال لقراءتي للكتاب وتوضيحا لبعض المواقف والمرتكزات والمنطلقات التي يتبطنها ذلك المقال ويتفيأهاصاحبه..! 

وقبل تناول ما كتبه الأستاذ الجبيحي في مقاله لابد من الإشارة والتوطئة الاستهلالية لمجموعة عناصر ومفاهيم معينة وهامة في سياق المسألة تتلخص في الآتي:- 

اولا: من الأهمية بمكان الإشارة ابتداء إلى أن كاتب – فضاء لا يتسع لطائر – قد انتهج أسلوب جمع فيه بين عدة أجناس كتابيه مرتبطة بالأدب السيري، وبتعبير أوضح فإن أسلوب حاشد جمع بين لغة (الرواية – الرواية السيرية – المذكرات) لكن هذا العنصر الاخير ان اتفقنا على تسميته – مذكرات – فهي مذكرات الإنسان الأديب المندغم في تجلياته العاطفية ووجدانه الإنساني أكثر من كونها مذكرات رجل سياسي محكوم بعناصر الكتابة السياسية والتاريخية وابعاد مواقفه الأيديولوجية..!!  

وبالتالي فإن التعاطي النقدي مع هذا الكتاب يستوجب أن يكون بمحددات ومعايير هذا الفضاء، الذي اختمرت وتفاعلت فيه فكرة الكاتب وولد منها كتابه. حتى وان كان من الواضح في بعض فصول الكتاب أن حاشد لم يخفف من الضغط على النسق السردي الروائي بعناصر من سيرته السياسية لكن ذلك الضغط ومحتواه يظل خارج معايير ومقتضيات وعناصر الكتابة السياسية والتاريخية. 

ثانيا: إن الأدب السيري او (رواية السيرة الذاتية) تعد اليوم أكثر من أي وقت مضى شكل متكامل من أشكال الرواية الأدبية، وهذا النوع الروائي، وكون كاتبه لا يمارس لعبة التخفي والظهور أو تنشيط ضمير الغائب وإنما يتكلم في كل فصولها ووقائعها بضمير المتكلم. 

وبالتالي ولكون الكاتب هو الرافعة التي تتمحور فيها ومن خلالها الأحداث والوقائع فإن ثمة عناصر تفرض نفسها عليه اولا ككاتب أهمها الصدقية والتجرد من التوظيف الأيديولوجي، وهو يتناول مراحل وأطوار ومتغيرات حياته .. كما أن هناك ثانيا: ثمة عناصر تفرض نفسها على النقاد والقراء كلوازم نقدية عند تناول ما كتبه الكاتب أهمها: مراعاة الفضاء الكتابي الوجداني العاطفي كون تقنيات السرد في الشكل الروائي تدمج بين الذاتي والواقعي والمتخيل ايضا، وتبقى الصدقية التي يحتمها أدب السيرة الذاتية هي القاسم المشترك بين هذه الفضاءات..!

ثالثا: يفرض هذا الجنس الأدبي من الكتابة على الدارس والناقد الانصهار في هذا الفضاء الاجناسي المميز والتصنيفات الأدبية الثابتة للغة وبنية سرد هذا النوع من الكتابة يحيث تتمحور التناولات النقدية عند البحث عن تجليات المكون السردي وفضاءات الحوار بين العاطفة والتخييل بين الأنا والآخر بين الصمت والصخب وهكذا دون أن يقع الناقد في فخ اللاوعي الذي يتحرك في بر التكون الأيديولوجي والسياسي، ويوجه عناصر نقده في تناولات مكشوفة نحو محاصرة بعض سياقات ووقائع الكتاب وتقطيع اجزائها الى مساحات ترصدية مهما حاول الناقد اخفائها او إغماض وتغليف غايته فيها الا انها بطريقة او باخرى تومض باغشية ظاهرة او شفافة تعبر عن انكشاف جلي لطبيعة النقد وغايات الناقد ذات النزوع الأيديولوجي التي تتمحور حول البحث عن إدانة سياسية للكاتب تتعدى بأميال شاسعة العناصر والأهداف الموضوعية لعملية القراءة النقدية المتجردة والمحايدة..!!

التعليق على ملاحظات الجبيحي في قراءته النقدية لفضاء لايتسع لطائر

اثبت الجبيحي لمن يقرأ مقاله وانا احد هؤلاء القراء انه ليس مجرد كاتب عادي بل لديه سعة من الاطلاع المعرفي واقتدار في الإمساك بتلابيب الكتابة وقدرة واضحة في هصر خواصر سياق النص الادبي او السيري بالادق، لكنه ورغم ذلك لم يستطيع رغم محاولاته اخفاء فضاءة الذهني ونزوعه الترصدي في تتبع عناصر ومسائل في الكتاب لإشباع حاجة سياسية وأيديولوجية في نفسه، هذه الحاجة الاشباعية تناسل منها منهجه غير الحسن النية والهادف الى محاولة ادانة الكاتب والكتاب إدانة سياسية وأيديولوجية لا نقدية، لأن ثمة عناصر واطر ذهنية في المقال انتظمت خارج مقتضيات النقد المجرد ومنهجيته المعروفة.

هذا ليس محاولة مني لإثبات سوء نية الجبيحي او الدفاع عن حاشد ولكني اكتب من منطلق رؤيتي الشخصية للموضوع، وفي إطار قناعاتي. وستناول بالتفكيك مواطن الترصد التي سعى إليها كاتب المقال والتي تكشف بدورها أهدافه وغاياته غير الموضوعية من منطلق المناهج النقدية للسير الروائية، وهي غايات وأهداف متعلقة ومنطلقة ومتمحورة في السياق التوظيفي لما هو سياسي إيديولوجي.  

وساوجز ذلك على النحو الآتي:

– ثمة مساحة واسعة من مقال الجبيحي وقف فيها على أوجاع الكاتب وعقود معاناته على مستوى الطفولة والعائلة والدراسة وكل ما هو إنساني وعاطفي ووجداني لدى الكاتب، فهذه المساحة كانت موفقة في التناول والعرض ولا تعليق لدي او اضافه عليها.. 

وقد توفق كاتب المقال في طريقة تعاطيها لأن عناصرها ومعطياتها في الأغلب غير قابلة للتوظيف السياسي والايديولوجي .. ولربما انه سعى لجعل هذه المساحة كمقدمة لرسم وانجاز وفاق مع كتاب فضاء لا يتسع لطائر ومع قراء المقال أيضا، لكنه وفاق مفخخ بمصفوفة من الغايات المتتالية التي تستثمر في هذا الحقل لإثبات إدانة وتعزيز معطيات سياسية وأيديولوجية كشف عنها الجبيحي بانتقائية تناوله لمسائل ووقائع سياسية اجتزأها عن الفضاء العام و استخدمها بحس سياسي توظيفي ماكر لإدانة الكاتب ليس في إطار فضاءات كتابه فحسب، وإنما في رحلة نضاله السياسي ونزوعه الأيديولوجي اليساري بل وبفداحة المتجاسر محاولة إدانة تجارب سياسية اعتمادا على بعض حيثيات ما كتبه حاشد..!!

– وقف الجبيحي ابتداءا عند نص إهداء الكتاب إليه من مؤلفه والتي قال عنها إن المؤلف بالغ فيها ويحسبه فيها صادقا.. رغم أوجه تباينهما..!! فالجبيحي من أول وهلة، وفي مساحة الإهداء الذي غالبا ما يكون محكوما بالعاطفة وقواعد المجاملات والمكنون الوجداني، وهذه المساحة ليست للنقد غالبا ولا للإعلان في سياق تناولها عن ان المهدى اليه (أي الجبيحي) غير متوافق مع المؤلف .. فهذا الابتداء الذي لم اعرف كيف سقط فيه الجبيحي يخرجه ابتداءا عن دائرة التجرد والحيادية لما سيتناوله في مقاله من مناقشة للكتاب المهدى إليه ومؤلفه. ولكن هذا المسلك والتموضع الاستهلالي يذكرني بما لا اود قوله من مأثورات العرب لأنه حري بنا أن نعفي الجبيحي من هذه السقطة المبكرة دون القول إن لسان حاله هو “كاد المسيء أن يقول خذوني” .. فهو أكبر مستوى من هذا الحال حتى وان هو اعلن مبكرا عن تناوله السياسي والايديولوجي للكتاب السيري..!

– حاول الجبيحي أن يؤثث فضاء مقاله ويؤصله من قراءته لتجربة عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الأيام .. والذي أعقب ذكر اسم عميد الأدب بعبارة رحمه الله (وعفى عنه) وهذا انكشاف ايديولوجي مبكر، وعثرة تخرج كاتب المقال عن طور التجرد والحياد الموضوعي ..فايراد عبارة – وعفى عنه – ليست على سليقته وبراءتها الإيمانية العفوية، بل إنها موقف صريح يعلن فيه الجبيحي انه من جيل السلفية التي ناهضت أطروحات عميد الأدب العربي، وهذا ايضا انكشاف مبكر لذهنية الجبيحي الغارقة والمحكومة بالايديولوجيا الدينية التي ترى كل ما سواها مدانا وخاطئ.

– وفي انتقائية أخرى مبكرة يستعير الجبيحي لسان مواقف الغير في تصدير أولى لإنجاز ادان لـ”أحمد سيف” تتعلق بصحيفة المستقلة التي كان ناشرها، فالجبيحي بهذه الجزئية ليس في صدد تناول أسلوب حاشد في الكتابة ووصف اسلوبه بالسهل الممتنع، وانما اراد ان ينقلنا الى واقع التجربة الصحفية لحاشد ويذكرنا بالمواقف المناوئة والرافضة لتلك الصحيفة والتجربة آنذاك في محاولة منه لإضافة عنصر توظيفي جديد في مساحة الإدانة المدروسة.

 فالاصح ان كاتب المقال لم يكن بحاجة للعودة للصحيفة لتدعيم قوله عن أسلوب حاشد السهل الممتنع كون الكتاب الذي بين يديه يقدم له ما يحتاجه في هذا السياق .. أما صحيفة المستقلة فذكرها يهدف لإثبات أن هذه الصحيفة جرت يوما ما سخطا كبيرا على حاشد..

رغم ان هذا السخط لم يعبر عنه في حينه إلا كتاب واتباع حزب تجمع الاصلاح والمكونات السلفية التي ينتمي إليها كاتب المقال.

أما المستويات الشعبية الواعية والنخبوية من المثقفين والمطلعين فهم كانوا مدركين أهداف وأهمية تلك الصحيفة التي كانت بدورها تكشف عبر مختصين قانونيين ومن مصادر موثقة في النيابات العامة وأقسام الشرطة الاختلالات الاجتماعية التي أنتجت الانحرافات السلوكية التي كانت تتناولها الصحيفة، ومن ثم تقديمها للجمهور ولجهات القرار لتقف عليها وتقوم بدورها في وضع المعالجات لتلك الاختلالات في بنية العلاقات المجتمعية التي نتج عنها الانحراف السلوكي، وهذا نوع من الصحافة معروف في كل البلدان ذات التوجه الديمقراطي والمجتمعات المدنية..!

– كما يعرج الجبيحي الى قيام حاشد بتغيير اسماء ابنائه من فيدل إلى فادي، ومن يسار إلى يسرى .. في مسعى واهن وغريب لإثبات تغير الموقف السياسي والايديولوجي لحاشد ويتساءل في مكان آخر من مقاله متهكما بازدراء سياسي مغلف ليت شعره ما هو إحساس هؤلاء الابناء..

إن هذه المسألة جزئية تندرج ضمن معطيات الحياة العائلية والوجدانية لا اكثر ولا تصلح كمادة لقراءة موضوعية لموقف سياسي أو قناعة أيديولوجية .. بقدر ما تهدف لتهكم سيء النية في محاولة تشكيكيه لمواقف حاشد السياسية وعدم ثباته فيها..!. مع أن هذا التغيير قد يكون للرجل فيه مبررات واقعية لا يعلمها الجبيحي في تغيير حاشد أسماء ابنائه لاعلاقة لها بالسياسة والايديولوجيا ..

فانا اتذكر شخصيا في ايام طفولتي والتحاقي بالمدرسة في المناطق الوسطى أن إدارة التربية والتعليم في عام 1985 رفضت تسجيل أبناء بعض مناضلي الجبهة الوطنية أحدهم كان اسمه فيدل، وتم تغيير اسمه إلى فائز، وآخر كان اسمه جيفارا وتم تغيير اسمه الى جياب، وبنت آخرى كان اسمها لوبا وتم تغيير اسمها إلى آلاء ..

كما أني شخصيا واجهت في العام 2017م اشكالية في جمهورية السودان في تسجيل ابنتي الصغرى – انجيلا – في مدارس الخرطوم الحكومية التي رفضت قبولها بهذا الاسم، واضطررت ان اسجلها بمدرسة خاصة وبصعوبة بعد إقناعهم من قبل أحد المدرسين السودانيين الذين عملوا باليمن ان هذا الاسم رائج في اليمن….!!

وهكذا من المواقف التي قد تستدعي تغيير الاسماء..! ربما مناضلي اليسار اليمني عاشوها ويدركوها .. أما الذين يتفانون في تسمية ابنائهم بـ”سراقه، حمزة، جعفر، عائشة.. الخ” فليس بوسعهم إدراك شيء من هذا القبيل..!! بل المؤكد أن سياسة الجماعات الدينية وهيمنتها على القطاع التربوي انذاك هي الدافع والسبب الأساسي لتغيير البعض من اليساريين اسماء ابنائهم كخطوة اضطرارية لقبولهم في المدارس. 

– كما أن الجبيحي وفي كل فقرة من مقاله يكشف اكثر واكثر عن منهجه السلفي النكوصي حتى وإن ظهر معتدلا في بعض الأحايين بذهنيته الإخوانية ذات العمق السلفي.

لكنه في في المقال يعود لينتقد بقناعات نكوصية مبطنة تأثر أحمد حاشد في كتابه ببعض آراء الكتاب الملحدين وتبنيه لموقف إيليا أبو ماضي في قصيدته المشهورة عن تساؤل الوجود، وهو بذلك يبحث بإصرار وترصد عن إدانة سياسية وأيدلوجية لحاشد تمهد لتكفيره وما ايراده لعبارة (هداه الله) الا تأكيد لنيته تلك واتهام ضمني لحاشد بالكفر والضلالة..!

إن الجبيحي بذلك يعيدنا في الوعي والذهنية الى ستة او سبعة عقود مضت كانت هذه المعطيات محل جدل وتراشق فكري ومنهجي بين دعاة السلفية والعقلانيين الذين عرفوا آنذاك بفريقي الأصالة والمعاصرة.

وهو بذلك يثبت أن العقل الديني غير قابل لاستيعاب معطيات الحياة المتطورة، وان الثورات المعرفية التي شهدها العالم قد تجاوزت مثل هذه الجدالات البيزنطية السفسطائية العقيمة، وأن البشرية باتت اليوم في مرحلة نهاية اليوتوبيا وأصبحت العلوم بكل معطياتها الإنسانية والطبيعية مخرجات تطبيقية وخدمية وتضاءل حظ الأسئلة الجدلية الكبرى من الاهتمام سواء ما يتعلق بالخالق أو الوجود، وأن الموجود باتت محور كل العلوم. 

هكذا يثبت الجبيحي بايديولوجيته الدينية أن المتدين كائن عدمي عائش خارج الصيرورة التاريخية حتى وهو في سياق تعليق على سيره روائي للكاتب..!

– أما حديث الجبيحي عن حاشد بخصوص ما اشار اليه عن الشيخ الأحمر فهو بصراحة يتهمه بالكذب..! فلا أملك أي تفسير او معلومة حول الموضوع، لكن ما يعنيني هو أن دفاع الجبيحي عن الشيخ الأحمر واتهام حاشد بالكذب تأكيد على ما أشرت إليه من تموضع الجبيحي في مركز السياسي الأيديولوجي المترصد، فهو بهذه الجزئية يكشف بعد انكشافه الايديولوجي عن تموضعه الحزبي التنظيمي في تجمع الإصلاح، وهذا حق طبيعي له ..

لكن ما ليس من حقه هو أن يستخدم مادة كتاب – فضاء لايتسع لطائر – كسيرة روائية مادة توظيفيه للمكايدات والادانات السياسية، وايضا ليس جدير به ان يتمترس وراء كتاباته التي تنم عن معرفة واطلاع ليخفي ويخاتل من وراها ويتفيأ من ذلك حاجات حزبية وسياسية ضيقة تتطلب منه التعبير عنها بموقف ونقد سياسي لا في سياق النقد الأدبي لسيره روائية..!

– كما أن تناول الجبيحي لما كتبه حاشد عن أحداث 1986 يجعله يصل إلى ذروة الانكشاف وانفراط عقد كياسته في عدم التصريح بمقاصده السيئة النية في مقاله ليظهر بوضوح موقفه المتجاسر والاعتباطي لقراءة التاريخ السياسي في مساحة ادبي مادة روائية، انه يحاول وبسذاجى السياسي المتدين ان يحاكم ويقراء اليسار اليمني من بعض سطور ساقها كاتب يساري في سيرة ذاتية روائية..!

مع أنه من حق أي كاتب سواء الجبيحي أو غيره نقد تجربة اليسار اليمني وأحداث 1986م في عدن، ولكن من موقع الكاتب السياسي الموضوعي، وفي مناسبة سياسية أو في سياق تناول كتاب في التاريخ السياسي..! مثلما عمل بعض كتاب اليسار أنفسهم وبشجاعة وموضوعية أمثال قادري أحمد حيدر والمرحوم ناصر محمد ناصر في نقد تجربة تيارهم اليساري والتي لا تخلو من الأخطاء والسقطات ..

لكن المتمعن في مقال الجبيحي سرعان ما يدرك أن ما رشح عن كاتبه من مضمرات أو معلنات تكشف عن حالة إعاقة في الفكر والموقف والرؤية، ورثها قسرا من تجربته الحزبية بكل ما فيها من مساوئ وتناقضات وعقد انتهازية فصامية..!

– بعد أن أكملت قراءة مقال الجبيحي خال لي أن فضاء لا يتسع لطائر لو لم أكن بصدد قراءته ليس سيرة ذاتية روائية، وإنما مصنف بحثي يتناول تاريخ تجربة اليسار اليمني..!

مشكلة المثقف الديني المنغمس بالتجربة التاريخية للإسلام السياسي أنه مهما اتسعت معارفه وتجاربه يظل رهينة لأمرين .. الأول عدم قدرته في التصالح مع الآخر المختلف عنه كون مدخلات وعيه الأولية وأطواره النشأوية قائمة على مفاهيم مريضة استعدائية، فما دون جماعته وفكرها هو انحراف – ضال – متآمر.

اما الامر الثاني فهو: الطوباوية والشعور العدمي المطلق والمتطرف باحتكار الصواب .. لذلك فهو لا يعترف بغيره إلا سفيها ومخطئا، ولا بفكر او تجربة الا باعتبارها كفر، والانحباس داخل هذه الدائرة يقوض جسور المشترك الإنساني في وعيه وضميره وتفكيره وأطروحاته، وبالتالي فإن الجدل معه أي المثقف الديني يضاعف الانقسامات في الوعي أكثر مما يسفر عن مساحات تفاهم .. لان الانسان ومن اجل ان يمتلك القدرة على نقد الآخر يتوجب عليه اولا ان يكون انسانا متحررا من الارتهان اللاوعي لصالح مركزيات سياسية وأيدلوجية ..

وهذا ما ليس بمقدور أي مثقف ديني إنجازه ابتداءا من محمد عمارة وفتحي يكن، ومرورا بالغنوشي حتى الجبيحي، ولذلك لا ترى هذا الفكر الاستنساخي المنغلق يتمدد وينتشر إلا بين الطبقات المجتمعية التي ترزح تحت الفقر والجهل والمسلوبة الوعي لصالح الغيبيات والخرافة. 

 

في هذا المستوى الشعبي ترى المتدين كائن نشط وفاعل ومتفاعل، أما في المستوى العقلاني والواعي والتنويري، فإن المثقف الديني يتحول إلى كائن خامل يضمر الشر والعداء ومهجوس بمتواليات لا نهائية من اللؤم ومرض النفس والحقد والغل، سرعان ما تنكشف تلك المضمرات في سياق ومحطات السعي المحموم للمتدين لتحقيق غاياته..! طبعا لا اتكلم هنا عن الجبيحي وإنما عن المثقف الديني بشكل عام..!

– انت مذنب يا أبا فيدل اقصد فادي .. الغفران هكذا وعبر هذه العبارات الكأداء يستمر الجبيحي في تناوله لفضاء لايتسع لطائر، أليس في كنه وفحوى هذه العبارة التي أطلقها الجبيحي في مقاله ترجمة واضحة لمجمل الخصائص والنوازع النفسية المريضة التي اشرت اليها في المثقف المتدين، والتي مهما اضمرها فإن انقذاف لغته المنفلتة تكشف أنه هنا وبجملته تلك ينزع عن نفسه دون ان يدري صفة المثقف أو حتى السياسي والكاتب . ويظهر على حقيقة أعماقه كرجل دين يحتكر الحقيقة ويستلب سلطة السماء والأرض في آن واحد، فقد أوجد تشريع وطبقه في ادانة حاشد بالذنب ثم غفر له. مع ان تلك الامور تتعلق بسلطة مؤجلة لله ومعجلة للقاضي القانوني، وليست للكاتب والناقد والمثقف، لكن لا غرابة انها بنيته التكوينية والمعرفية والذهنية المستلبة لقناعات قسرية فحواها أن ما دون جماعته و ايدلوجيته باطل..! 

اذا عندما ترى المتدين يتمترس خلف هذه المفاهيم المتطرفة والمرضية التي تؤثث ذاكرته وتفخخ وعيه، ويصعب تفكيكها أو حتى تجريفها فإنه لا جدوى أن تدخل معه في مثاقفة او مناقشه لانك مدان سلفا حد قناعاته القسرية التي يغذيها انهجاسه بالمظلومية التاريخية والسياسية التي يظن أنها لحقت به ولم يدرك أنها حالة مرضية في الوعي ومولده لعناصر الاستدعاء وفقدان الثقة بالآخر..! 

لذلك آثرت في هذه العجالة الا ارد على الحيثيات والوقائع والمواقف التي تضمنها مقال الجبيحي وإنما آثرت أن أوجه مااكتبه إلى تناول الذهنية والعقلية الاستحلالية للمتدين المثقف وخطابه الديني، وبنفس الوقت أجدني التمس العذر الى حد ما لذلك المتدين المسلوب لأن وعيه المعرفي وبنيته الذهنية التي تعيقه هي نتيجة لتربية استلابية طويلة ومدخلات وأطروحات مريضة فرضت عليه ابتداء، واصبح هو نتيجة لها ولتلك التراكمات المتصلبة والقسرية التي يستحيل عليه التحرر منها مهما حاول هو أو نحن ذلك، وحتى وإن اتسعت ثقافته ومعارفه وعلومه وتجاربه في الحياة فهي كلها معطيات تدور في فلك الثابت القسري المتصلب..! 

هذا باستثناء المفكر عبدالله القصيمي الذي استطاع الانعتاق من أغلال الفكر الديني الاستلابي، وما مكنه من ذلك أنه لم يكن متصل بتجربة سياسية للجماعات السلفية، فحين تتزاوج الأيديولوجيا السلفية مع تجربة سياسية قائمة على مجموعة من المصالح والمكنات يصبح المثقف المتدين من الناحية الانسانية حالة تدمي القلب ومن الناحية الواقعية لغم..! 

– ايضا ماترشح به نفسية وذهنية المثقف الديني نزعات الحقد والغل والتهكم تجاه من ليس من جماعته ولا يستطيع مقارعته ومناهضته بأدوات العلم والمعرفة، فلكون هذا المثقف المتدين خارج حتمية التاريخ، وغير قادر معرفيا على استهلاك الأطروحات المعرفية والنقاشات السياسية ..

فأمام الشعور بهذا العجز يصبح الغل والحقد والاستعداء السياسي هو ما يؤثث ضمير وقناعات ذلك المتدين، وايضا يجد في العنف والسلاح أداته المفضلة للمواجهة .. وإذا حصل هناك مجموعة توافقات بين السياسيين المتدينين مع طرف ما، فإنها ليست في قناعاتهم أكثر من حالة استثمار وتوظيف من أجل غاية ومصلحة للجماعة، وحين تحقيقها يتنكروا للآخر ويدينوه، وأعتقد أن تجربة الإخوان في اليمن مع الرئيس الراحل صالح خير ترجمه لذلك..! 

– وعودة إلى الموضوع في الجزئية السابقة في تناول ذهنية المثقف الديني، وفي سياق مقال الجبيحي .. نراه في جزئية أخرى من مقاله يصف كتاب حاشد – فضاء لايتسع لطائر – وفي أكثر من مكان بـ(الدردشة) والدردشة في اللغة هي كثرة الكلام واختلاطه فيما لا طائل منه .. هذا التوصيف ينم عن غل وحقد سياسي في اقل الاحوال للمؤلف كما يكشف عن انفصام شخصية كاتب المقال وتناقضه مع نفسه..! فهو الذي وصف لغة الكتاب في بداية مقاله – بالسهل الممتنع – كما أنه الذي صرح في مطلع مقاله أنه لا يكتب عن مصنفات منشورة أو كتب تهدى إليه، إلا تلك التي يجد فيها ما يستحق القراءة بوجه عام..!! اي تناقض وانفصام نفسي هذا الذي اجده .. ألم يكن الأجدر بأستاذنا القدير الجبيحي أن يترك الكتاب في رف مكتبته طالما هو دردشة حد وصفه لا طائل منها..!! وإن كان قد وجد فيه كما قال مايستحق الاهتمام فعلى أي أساس يصفه في أكثر من مكان بمقاله بالدردشة..!! 

إنها ذهنية السلفي المتطرف الذي يخفي تحت ثياب الوعي والمعرفة والثقافة تناقضا مخجلا. تلك الذهنية التي أمام عجزها الإبداعي تسعى للحط من إنجازات الآخر والتقليل من أهميتها الإبداعية ..

انه التفسير الأوضح لمثل هكذا تناول..! أحيانا التمس العذر وافترض حسن النية عند كاتب المقال في بعض ملاحظاته مثلا ما أورده في سياق النقد أنه كان يتمنى لو ان حاشد التزم بالسرد بترتيب الأحداث التاريخية حسب المراحل الزمنية لحدوثها بعيد عن التداخل والارتدادات الزمنية للحدث بين فصول الكتاب …

هنا ارى في الاستاذ الجبيحي شخص الناقد الطبيعي حتى ولو أن نقده قاصر كون كتاب حاشد ليس مصنف بحثي للتاريخ السياسي، وإنما جنس روائي لسيرة ذاتية لا تتقيد في بنيتها السردية بمركزية الزمان والمكان .. لكنه مع ذلك سرعان ما ينكشف في أول معراج تالي في مقاله ويكشف أن ذهنيته السياسية وانتمائه الأيديولوجي هي من يتحكم في نقده، وأنه يتغيأ من هذا النقد إدانة حاشد كشخص بالكافر والظال والمذنب ايضا، ادانة تجربته السياسية وكل ذلك لغايات ومصالح انتهازية اقلها الإشباع النفسي لحالة مرضية تستلذ في اختلاق الذنوب للآخرين وافتراض خطأهم وانحرافهم في معترك حياتهم..!

– يعود الجبيحي واصفا حاشد أنه كان من الطغمة. وانه اي حاشد وفي سياق حديثه عن السلاح الذي روى أنه كان معه في 1986 للدفاع عن النفس..! يقول الجبيحي في هذه الجزئية: ان حاشد يريد بهذا التصريح ان يتملص من المسئولية، وأن من حملوا السلاح رددوا نفس الكلام لذلك هو مذنب ولو لم يقتل ذبابة طالما حمل السلاح لمهام محددة…!

وهنا لا غرابة أن السياسي الديني يستطيب له الحديث عن السلاح الذي يعد وفق فلسفة ومنهج المتدين المتطرف اداة للقتل فقط، أما مهمة الدفاع عن النفس فهي ليست مهمة واردة في أدبيات ووعي المتطرف ومنهج وعيه التكويني .. لكن عندما يحاكم الجبيحي حاشد عن ذلك ويتهمه بالتملص عن المسؤولية، كان عليه اولا ان يدرك ان من طرح الكلام ورواه هو حاشد نفسه، وان الجبيحي لم يسمع الكلام من الغير، وحاشد اخفا ذلك لكي يقوم الأول بدوره باتهام الثاني بالتملص من المسؤولية ….

ثم إن حاشد ذكر أن ذلك لغرض الدفاع عن النفس .. بينما الجبيحي يحرف الكلام عن سياقه ويقول: (طالما وقد حملت السلاح يا أبا فيدل – فادي – لمهام محددة..!!) من أين أتى الجبيحي بهذه المهام المحددة وافترضها هو بينما حاشد لم يذكرها، وهو الراوي عن فعل نفسه، فاي مهام تقصد يارجل..!! انها الذهنية العنفية للمثقف الأيديولوجي الديني المسيس الذهنية المستحكمة، التي نمت وترعرعت وتعاظمت على تلك المهام العنفية في إطار المسلك المنهجي لجماعته الدينية وتجربتها السياسية ..!

إن الوعي الباطن للجبيحي يريد أن يقول .. لسنا وحدنا القتلة بل حتى أنتم ايها اليساريون قتله…!!! لكنه يجبن عن التصريح بذلك ويكتفي بالتلميح السياسي المخاتل بما يشتهيه غله وضميره 

– أما منهج الجبيحي في توصيف حاشد لمن صفوا من الضباط في 1986 بالشماليين .. فأجدني كيساري اتفق مع الجبيحي لأن الفرز لم يكن شمالي وجنوبي حد علمي المتواضع بل على أساس سياسي – مناطقي في الجنوب .. لكنه ورغم مساحة التوافق التي يتركها سرعان ما يعود لمستنقعه ويقول بلؤم سياسي والغريب أن رفاق السلاح من الشماليين بالأمس هم من أصبحوا اليوم ينادون بالانفصال فياللعجب..!!

أليس حريا بالجبيحي النأي بنفسه عن استخدام كلمة الشماليين التي أنكرها ومعه حق في سياق المقال..! ثم طالما وصل للانفصال لماذا لم يقف ولو بالتلميح عند الأسباب التي أدت بالكثيرين للدعوة للانفصال الذي أصبح للأسف ليس مطلبا سياسيا وإنما مطلبا شعبيا في الجنوب .. انه يدرك أن هذه المسألة تحديد تمثل مستنقع سياسي قذر غرق فيه الرئيس السابق صالح وحلفائه من حزب الجبيحي والمكونات السلفية والمشيخية في حرب صيف 1994م، وبالنسبه لتجمع الإصلاح فقد غرقوا بذلك المستنقع الكارثي ليس كموقف سياسي وحسب، وإنما لدرجه ولوع ايديهم بالدم الجنوبي واغتيال مشروع الوحدة مشروع اليمن الحضاري المعاصر .. والذي يكمل الحوثي اليوم ما بدأوه هم في صيف 94م..!!

المهم لا أود الخوض في تفاصيل الأحداث السياسية لأنه لا طائل من ذلك امام سياسي متدين كون هدفي كما اشرت هو تفكيك وتعرية الذهنية المرضية واستحلالية الخطاب السياسي لجماعات وكتاب الإسلام السياسي عموما..! أما تساؤله لحاشد لماذا لم يكن الاجدر به ان يوضح الفارق الكبير جدا بين حرب 94 ومن أوصلنا لـ2015..! فلا أجدني مضطرا ككاتب ومتابع للخوض بتفاصيل مقروءة للجميع في ظل ذهنية سبق وان اوضحت وعيها القسري ومسلماتها اليقينية.  

– في الأخير يختم الجبيحي ذروة اشتهائه ويعري غايته ومقاصده من مجمل مقاله باتهامه الضمني لحاشد بالتواطؤ مع جماعة الحوثي حتى وإن لم يقل ذلك نصا، ولكن بحذلقة المتدين السياسي أورد في مقاله أن حاشد ينتقد جماعات بينما تلك الجماعة لا تستطيع نقده..!! بمعنى واضح يفهمه الانسان العادي ان الجبيحي يقول بلغة ضمنية أن مناهضة حاشد في مواقفه وكتاباته لجماعة الحوثي أمرا يتم ضمن مساحة متفق عليها مع الجماعة بدليل أنها لم تقم بموقف تجاهه كالاعتقال مثلا..!!   

هذا التساؤل والاستعراض المخاتل يحاول الجبيحي من خلاله التشكيك بمواقف حاشد السياسية .. لكنه استعراض واتهام ضمني مكشوف وغير ذي جدوى لمن يتابع الشأن السياسي ولديه أبسط معرفة عن حاشد ومواقفه تحت قبة البرلمان وخارجها ..

فاولا حاشد لاتوجد لديه اي ارتباطات وقنوات اتصال وتفاعل سواء سياسية أو تفاوضية أو امنية مع كل فرقاء السياسية وأطراف الحرب .. كي يتم اعتقاله في صنعاء تحت مبرر شيء من هذا القبيل … أما مواقفه ومعارضته للحوثي فهي نابعة من واقع وأخطاء فادحة وقعت بها المليشيا وانتهكت عبرها كل ما يتصل بالإنسان والدولة والتاريخ والهوية اليمنية …

فهو لم يقل كذبا أو يفترى زورا على تلك الجماعة الكهنوتية .. أما عدم قدرة تلك الجماعة على انتقاد حاشد او قيامها باعتقاله، فالجبيحي لم يدرك ما أدركه الحوثيين في هذه المسألة .. فالاخيرين يتمنون لو بوسعهم اعتقاله واسكاته، لكنهم بخبثهم وغطرستهم السياسية اذكى من بقية جماعات أهل السنة والجماعة السياسية، فهم يدركون أن اعتقال حاشد له تداعيات، وان نتائج مثل هذه الخطوة سيكون لها مخاطر وأضرار تفوق وتتجاوز مخاطر مواقفه ضدهم وانتقاداته..! فهو اولا نائب برلماني، والجبيحي أكثر من يعرف حاجه المليشيا الكهنوتية لعضو تحت قبة برلمان صنعاء في ظل عدم اكتمال نصاب البركاني .. كما انه وهو الاهم ومالا يدركه الجبيحي ان حاشد اصبح حالة شعبية، وليس حالة حزبية .. وطالما هو كذلك فليس بوسع الحوثي إلقاء القبض على فمه..!!

على العموم في الاخير لايسعني الا ان اعبر عن احترامي العميق وتقديري الكبير للاستاذ يحيى الجبيحي مؤكدا أن بعض التوصيفات التي تناولتها في هذا المقال لا اقصد بها اي إساءة لشخصه وإنما أوردتها في سياق تناولي الذهنية التكوينية والخطاب الاستحلالي الأيديولوجي لجماعات الإسلام السياسي بشكل عام، تلك الجماعات التي من المؤكد ان استاذنا الجبيحي عضو فاعل في احدها وربما بل مؤكد ارشدها، ومن خلال طريقة سرده لمقاله اعتقد انه ليس مجرد كاتب بل صانع سياسيات في إطار جماعته أو حزبه الاسلاموي..!!.. اعتذر عن الاطاله وعدم ترتيب سياق المقال لاني كتبته على عجالة..!

والله ولي التوفيق 

فجر الجمعة 28 فبراير 2025م

لقراءة مقال الاستاذ يحيى الجبيحي انقرهنا

لقراءة وتحميل كتاب فضاء لا يتسع لطائر انقر هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى